الأربعاء 2013/08/07

آخر تحديث: 10:26 (بيروت)

عودة عكاشة

الأربعاء 2013/08/07
عودة عكاشة
increase حجم الخط decrease
عاد أسامة أنور عكاشة بعد رحيله. لكن عودته كانت مختلفة عن كل ما حققه من مسلسلات. على الأقل، في الموضوع. فمسلسل "موجة حارة" الذي حققت معالجته الدرامية السيناريست مريم نعوم بمشاركة أربعة كتّاب حوار شباب، والمستند إلى رواية كتبها عكاشة في أوائل الألفية (منخفض الهند الموسمي) يعالج موضوعًا "غير عائلي"، الأمر الذي كان يحرص عكاشة على الابتعاد عنه في أعماله التلفزيونية، بعكس أعماله السينمائية. ففي أعماله التلفزيونية لن نرى مشاهد متطرفة لخيانة وتعاطي مخدرات، كما في فيلمه "الهجامة" مثلًا، المنفّذ عام 1992. وفيما عدا جلسات الحشيش التي كان يشوبها الطابع "الكوميدي" في مسلسلاته، ما من تفاصيل تخطت هذه الحدود الرقابية. 
 
ليس معروفًا إن كان هذا الابتعاد قرارًا ذاتيًا من عكاشة أو تقيدًا بمنظومة رقابية رسمية آنذاك، لكننا نعلم أن اسمه وأسماء كتاب آخرين (وحيد حامد مثلًا) كانت تدفع الخط الرقابي عملاً إثر عمل في مطارح ثقافية وسياسية إلى أن ترتطم بحدود معينة. العودة للجزئين الرابع والخامس من "ليالي الحلمية" تبرز نوعية التعاطي الحذر، وأحيانًا المادح على الأقل في  البداية، مع فترة محمد حسني مبارك على لسان الشخصيات. وإذا كان هذان الجزءان من الليالي قد نفذا في النصف الأول من التسعينيات، قبل انتشار الفضائيات والمطبوعات المصرية الخاصة، فإن خطوطًا ظلت غير قابلة للتجاوز: الرئيس، النظام، ولاحقًا ابنه، وصراحة التطرق للجنس في التلفزيون.
 
ورغم بداية الحراك ضد التوريث في العام 2005، ظل هذا التجاوز للخطوط  محصورًا في الشارع والفضاء الإلكتروني، وصحف خاصة قليلة. لم يشهد التلفزيون أو السينما مثل هذا التوثيق. تهويم  المواضيع حينها كان ملجأ حسنًا. إذ كان يمكن لصناع الاعمال أن يتكلموا عن الفساد ما أرادوا. يمكنهم أن يتكلموا عن فاسدين. يمكنهم أن يتكلموا حتى عن جماعة الإخوان المسلمين. لكنّ الأمر يقف عند هذا الحد. لن يتاح لك أن تتحدث عن النظام إلا بعد رحيله. أما مواضيع الجنس ومشاهد التماس الجسدي (إلا بين الأم وأولادها، وبحدود)، فليس مكانه المسلسل التلفزيوني في عصر السينما النظيفة. 
هكذا كانت تجري الصناعة التلفزيونية.
 
لكنّ مسلسل "موجة حارة" يأتي اليوم ليضرب بكل هذه الخطوط عرض الحائط (ما عدا خطّ الجيش الذي لم يقاربه أحد بعد). أمامنا شيخ كاذب لا يدري أنه متزوج بقوادة. ولدينا ممارسات الشرطة العنفية في الأقسام. وصورة جيمي (جمال مبارك) التي يُستهزَأ بها صراحة. وهناك العلاقة المثلية بين فتاتين، والخيانة الزوجية، والتماس الجسدي بين الجنسين، وطرق عمل شبكات الدعارة وعلاقتها بالنظام. وهذا كله لا يحدث فقط محبةً في كسر التابوهات بشكل فجّ، على طريقة الأعمال الفنية "المقاولاتية"، بل يأتي مفروضًا من مضمون العمل نفسه وبلا "أفورة".
 
في "موجة حارة"، تتناسل العلاقات بين الشخصيات في مطارح ضيقة معدودة. فيراكم المسلسل التفاصيل بشكل يجعل الحبكة غير مقنعة  في البدء، ثم لا يلبث أن يلمها تفصيلُا إثر الآخر، لتتكشف علاقات الشخصيات ببعضها بتتابع الحلقات. وقد يحدث أن لا تظهر شخصية لحلقات ثم تعود وكأنها فارقت المشاهد البارحة، أو نتعرف على شخصيات في حلقات متأخرة ثم تمسي رئيسية في صلب العمل. وهذا على الأرجح يعود إلى البناء القوي للشخصيات في الرواية الأساس وفي طريقة كتابة وتنفيذ الحلقات.
 
تتمحور قصة المسلسل حول علاقة رئيسية بين ضابط آداب وقوّاد. من هذه العلاقة، بين الحاكم المحكوم والمحكوم الحاكم، تتفرع علاقات أخرى لكنّ الثابت فيها واحد: ثيمة الجنس، مدفوعًا، غير شرعي أو شرعيًا. الجسد هنا بمتعته وترهله وتعبه هو مدخل للحديث عن مرحلة كاملة. والتناسل هنا جزء من هوية هذا المزاج السائد، فهو مرفوض ومقموع تمامًا. لكأن المسلسل يريد أن يقول هذا نظام ينجب مثل هذا المزاج، وهذا المزاج لا ينجب شيئًا إلا هذا الوحل والتعب والنهاية الحتمية. فزوجة الشيخ تكاد تكون عاقراً، وضابط الأمن الشكّاك المعنِّف عاقر أيضًا، حتى يبدو محكومًا بدل حاكم. وحدهما الزوجان المتحابان يعيشان حياة هادئة، يُمنحان طفلة، قبل أن تنكشف الخيانة وتنتحر الزوجة. لكن حتى في خيانتها وانتحارها، لا نرى مقاربات مألوفة. طبيبها يقنعها أنها لم تخن، والزوج يسامحها بعد رحيلها.
 
هذه المقاربات غير المسطّحة للشخصيات تعطيها هالة من نوع خاص. نرى الممثلين جميعهم في أماكنهم المناسبة حتى أضعفهم في العام ليس ضعيفًا. تصرفات الشخصيات مقنعة. لن نكره أيًا من القواد والضابط أحيانًا. ولن نحبّ الزوجة المستضعفة أحيانًا، ولن نشتم الأم المتسلطة أحيانًا. فكل هذه الشخصيات تمر بموجاتها الحارة ثم لا تلبث أن تهمد في لحظات ضعفها حتى نفهم أكثر، ونقتنع أكثر.  
شخصيتان كان بالإمكان الاشتغال عليهما أكثر: أخ الضابط، والشيخ الداعية. 
 
فالطريقة التي عُرِّف بها أخ الضابط الناشط في المشهد الأول لظهوره عبر صور مناضلين وأغاني الشيخ إمام، بدت نافرة في السياق، قبل أن يهمد هذا التشويش مع تتابع ظهوره. أما شخصية الشيخ الداعية، فما من جديد هنا على صعيد المقاربة. الشخصية مكررة، سيئة على كل النواحي وتكاد تقارب التسطيح. بعكس الشخصيات الأخرى. لا نعرف إن كان ذلك عيبًا في الرواية أو المسلسل، ولا نعرف إن كان هذا تماشيًا مع سلوكيات الإسلاميين الحالية التي لا يمكن الدفاع عنها. كانت أمام هذه الشخصية، في مسلسل كهذا يتفادى القولبة، فرصة لمقاربة مختلفة.
 
ومعظم الشخصيات تحظى في المسلسل بـ"ماستر سينز": مشاهد القواد مع أمه، مشاهد الضابط مع أمه، مشاهد الضابط مع زوجته، الغناء الصوفي، العلاقة مع مقام السيدة زينب. حتى ألوان الضوء البيضاء والصفراء المنفلشة من النوافذ الخلفية والمغطية لمشاهد كثيرة تبدو بطلة. الكل عرقان. الكل متعب. 
 
عاد أسامة أنور عكاشة مختلفًا، سينمائيًا في التلفزيون. وربما لأول مرة في حياته وبعد رحيله، يُنصَف مضمون عمله تقنيًا، إخراجًا وإدارة ممثلين (محمد ياسين)، وموسيقى (السورية ليال وطفة) وكادرات تصوير (عبد السلام موسى). لم يأكل النص الصورة، ولم تأكل الصورة النص. بدا كل شيء متكاملاً. السيناريو والحوار كانا صلبيْن بما يكفي لأن يصل صناع العمل عملهم بإسم أب الرواية التلفزيونية بلا خجل.
 
ليس مهمًا أن ينتهي المسلسل ببروز الثورة، وليس مهمًا أن نرى الكثير عن 6 إبريل أو عن أحداث لاحقة في الحلقات المعدودة الأخيرة، وهي تفاصيل ليست موجودة أصلًا في الرواية بل فرضها تغيير زمن الأحداث ودفعها إلى عشر سنوات كاملة من 2000 حتى 2010. كل ذلك ليس مهمًا. المهم أن هناك من أنجز عملًا جماعيًا جميلًا وعميقًا وجريئًا، بعيدًا عن سلطة النجم المصري التي كان يكرهها عكاشة ويناصبها العداء، ومستفيدًا في الوقت نفسه من منظومة انتاج مشتركة جديدة بين المحطات الفضائية والشركات الإنتاجية الخاصة (الاقتطاع الرقابي من قبل أم بي سي المنتجة جزئيًا لهذا العمل عبر شركتها O3، لمشاهد معدودة عن المثلية النسائية، ينبغي مناقشته والتصدي المسبق له في العقود الموقعة). والمهم أن هناك من أبرز المستويات المعقدة التي يركض فيها الناس في مصر صعودًا ونزولًا، الآن أو قبل عامين، في مواجهة مقاربات مسطحة ذات أبعاد واحدة تعارف على الركون إليها في رتل أعمال تلفزيونية وسينمائية .
 
نفّذ هذا العمل هذا فيما كان السلفيون والإخوان يدفعون باتجاه دستور "شرعي"، قبل 30 يونيو. عمل صناع العمل بصمت. رُفع السقف الرقابي رفعة مهولة بضربة واحدة. لعل هذا التفاوت في وجه دولة عميقة، فنها النظامي برقاباته الأخلاقية المؤسسة والسابقة لوصول الإسلاميين، والمترهل إلى حد ضخم، يظهر أي عالمين متباعدين تعيش فيهما مصر.
 
(*) "موجة حارة": مسلسل مصري مستند لرواية "منخفض الهند الموسمي" لأسامة أنور عكاشة. 
السيناريو والمعالجة الدرامية: مريم نعوم، الحوار: وائل حمدي، نادين شمس، إسلام أدهم، هالة الزغندي، التصوير: عبد السلام موسى، الموسيقى: ليال وطفة، الإخراج: محمد ياسين، الممثلون: إياد نصار، سيد رجب، رانيا يوسف، معالي زايد، عايدة عبد العزيز، هنا شيحة، جيهان فاضل، مدحت صالح، هالة فاخر، خالد يوسف، درّة، رمزي لينر، وآخرين...
الموسيقى: https://soundcloud.com/layalwatfeh/sets/moga-harra
 
increase حجم الخط decrease