الأحد 2013/06/23

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

سنودن وهوية "الويب"

الأحد 2013/06/23
سنودن وهوية "الويب"
دعماً لإدوارد سنودن في هونغ كونغ
increase حجم الخط decrease
 لا تزال خطوة إدوارد سنودن تتفاعل. الأمر لا يزال يكتنفه بعض الغموض الذي يشوبه أحياناً في الصحافة العربية الجهل التقني والحماسة الشعاراتية المعهودة. يخلط البعض قضية "بريزم" بالرقابة على الهواتف، والرقابة على الشبكات الاجتماعية أو حتى "الهاردوير"، إضافة إلى الرقابة على الإنترنت. بيد أنّ الأمر رسا أخيراً على التفاصيل الأكثر أهمية (على الأقل لدى الأميركيين): مدى قدرة برنامج "بريزم" على اختراق خوادم الشركات العملاقة المذكورة في تقارير الصحف بلا إذنهم، واحتمال أن يكون التنصت قد شمل المواطنين الأميركيين داخل الولايات المتحدة.
 
ففيما تحيل فرضية اختراق الخوادم إلى احتمال مقاضاة مواطنين أميركيين لحكومتهم بسبب خرقها روح التعديل الرابع للدستور الأميركي، تدفع فرضية تعاون الشركات الطوعي/ القسري مع الحكومة، في إتجاه سقوط فكرة سياسات الخصوصية التي يوقّعها المستخدمون عند ولوجهم الشبكات، وتنبئ بفتح احتمال مقاضاة الشركات من قبل مستخدمين أميركيين. حتى الآن، ما زالت الشركات العملاقة تنفي، والأرجح أنها ستبقى على موقفها هذا لا لسبب إلا لكون الموقف المغاير سيضرب سمعتها في الصميم. أما الحكومة الأميركية فتحتمي بفكرة حماية أمن مواطنيها القومي، قائلة إن التنصت يشمل فقط الإتصالات مع المقيمين خارج الولايات المتحدة وإرهابيين محتملين.
 
البداية مع توضيح أول واجب: المعلومات العامة المتاحة على "الويب"، والمشارَكة على الشبكات الإجتماعية للعامة، عرضة دائماً إلى الجمع والفلترة بواسطة برامج بدائية وصولاً إلى برامج متطورة، ومروراً بتقنيات البحث التي يستخدمها مستخدمي الانترنت. ما يلجم حتى الآن تطوّر البحث واستخدام المضامين "الاجتماعية" هذه في خدمات أخرى، هو الجدران التي تمنع تبادل المعلومات بين جزر التكتلات العملاقة (غوغل، فايسبوك، تويتر..) بشبكاتها وخدماتها، مضافة إليها سياسات الخصوصية التي تعلن الشبكات التزامها بها عند ولوج المستخدم للمواقع في المرة الأولى. وهكذا، يسيّج بانو الحدائق حدائقهم بالجدران، ويفتحون فيها أبواباً فقط لمَن ينسَجون معهم علاقات خاصة.
 
وإذا كانت هذه الجدران نتيجة مباشرة لمحاولة حبس المحتوى وتثمير الشبكات في التجارة التي تطمس أحياناً إبداعات شتى خارجها، فإنّ مجموعة ثانية احترفت رفع الصوت بتطرف في شأن سياسات الخصوصية، وتتجير هذا الفعل، والمراقبة من قبل أجهزة ودول، حتى وصل تطرّفها إلى محاولة الوقوف (الفاشل طبعاً) في وجه تطوّر هذا العالم، بحجة المؤامرات التي تقف خلف نشوئه، لكنها، أي المجموعة، في الوقت نفسه، تستمر في استخدام هذا العالم.. للتوعية!
 
ورغم صحة وجهة النظر الأصلية للمجموعة، فإنّ الأمر برمته يطرح من جديد إمكان المزاوجة بين خطّي سير: احترام الخصوصية، ودفع هذا العالم عبر بيانات ومضامين وأنشطة المستخدمين إلى مرحلة أكثر ذكاء ودلالة.
 
 assange.jpg
جوليان أسانج على غلاف مجلة "تايم" الأميركية

الحالة أشبه بمقارعة التنظيم الأول المفروض من الحكومة الأولى، لأن النظام سيستخدم المعلومات لاحقاً وحتماً للقمع. الفرق هنا أن المستخدمين (المواطنين؟) يحاولون فرض التنظيم الذي يرغبون فيه على الأنظمة. هذا المثال يعيد إلى الأذهان الفكرة الأساس التي طرحها تيم بيرنز لي، مبتكر "الويب"، وتتلخص في الرغبة في عالم مفتوح تلحق به الحكومات ويغيّر في الأفعال الإجتماعية والثقافية، ولا يلحق هو بها. 
 
بهذا المعنى، صار "الويب" أكثر تعقيداً وأقل افتراضاً. إنه انعكاس لحياة واقعية عامة تتصارع وتتعاون فيها التجارة، والأنظمة السياسية، والنشطاء الذين يروّج يعضهم لنظريات المؤامرة، فيما يسعى بعضهم الآخر إلى فرض مفهوم وخصوصية الشبكة على الحكومات والقضاء مدفوعين بمعرفتهم التقنية وفهمهم لهوية الوسيط المتنازع عليه، والهدف: حمايته من التطويع.
 
الفكرة الأخيرة ظهرت جلية في كلام إدوارد سنودن لصحيفة "غارديان" البريطانية: فكرة التاريخ الذي يصنعه المستخدم، وحقّ المستخدم في حماية لحظيّة كلامه من استخدامات نظامية لإتهامه. بمعنى آخر، طرح سنودن فكرة شديدة الخصوصية حول لحظية الأفعال على "الويب". فإذا كان غضباً كلامياً لحظوياً في الواقع لا يُحفظ إلا في ذاكرة قائله والسامعين، فإنّ الكلام نفسه على الويب لا يذوب، والخطر أن يستخدَم هذا التاريخ الشخصي في معرض الابتزاز الحكومي.
 
 aaron-swartz-png.jpg
آرون شوارتز

مع اللحاق الأولي بخطوة سنودن، يُسترجَع مثال آرون شوارتز، الذي  قارع من داخل النظام، محاولاً الترويج لأفكار من نوع حق الاتصال والوصول إلى المعلومات وتقنين فكرة المعرفة المفتوحة، مؤازراً حتى بتلاقي مصالح مع الشركات العملاقة نفسها المتّهمة بتتجير تجربة الويب، في "بسترة" أقل للمعركة، وفهم واضح لتكامل عمله وعمل الشركات في تلك اللحظة المصيرية. وقتها، عرّف شوارتز الوضع بلا مواربة، ليقول إن المعركة القائمة هي "معركة لتحديد كل شيء يحدث على الويب من المنظور التقليدي الذي يفهمه القانون".
 
بهذا المعنى، تأتي خطوة سنودن لتفتح ثغرة جديدة في الجدار، وتعيد طرح النقاش على طاولة البحث من جديد، بعد انتحار شوارتز. لكن هل يمكن وضع إدوارد سنودن في سلة واحدة مع آرون شوارتز، أم في سلة أخرى مع جوليان أسانج؟ 
 
يأتي السؤال، على هذا النحو من التصنيف والمقارنة، رغم إعلان "ويكيليكس" على حساباتها في "تويتر"، بُعيد انتحار شوارتز، أنه كان مصدراً مُحتملاً لها. المفارقة أن إعلاناً كهذا شكّل انتهاكاً واضحاً لسياسة "ويكيليكس" المعلنة على موقعها في عدم الكشف عن مصادرها! لكن، رغم بقاء هذا الإعلان وقتها بلا تأكيد، وهو إن حدث، فإنه لا ينفي كون عمل شوارتز الاساس كان داخلياً، يشدّد على اقتناص حق المواطنين في الاتصال والحصول على المعلومات والمعرفة المفتوحة. والأهم، عدم إخضاع الويب للقوننة الكلاسيكية وفهم خصوصيته بدل تكبيله بمعايير سابقة أخرى (وهذا بالطبع لا يعني رضاه عن أداءات أنظمة اقتصادية وسياسية عالمية).
 
لا تلبث الأحداث أن تتسارع لتجيب، من غير أن تجزم، على السؤال هذا. فسنودن الذي حرص في حديثه المصوّر مع "الغارديان" على طرد الطابع المخابراتي من خطوته، لصالح فكرة حق المواطن في مساءلة حكومته، انتهى مغادراً هونغ كونغ، ليحطّ في موسكو (في انتظار وجهة اخيرة هي على الأرجح أيسلندا)،بصحبة مستشارين قانونيين لـ"ويكيليكس" في بداية معركة مفتوحة مع الحكومة الأميركية. 
 
ومع تتابع الأخبار، يبقى الأمل في ألا ينحرف النقاش مجدداً عن سؤال الهوية الأساس لـ"الويب"، بكل مكوناته، متبوعاً بالحالة الحقوقية الداخلية (والعالمية) الذي بدأ بها سنودن ظهوره، لصالح الحالة الاستقطابية الـ"ويكيليكسية" التي انتهت في شكلها الأخير إلى كونها نميمة مخابراتية، ليس إلا.
 
increase حجم الخط decrease