الإثنين 2013/04/01

آخر تحديث: 09:50 (بيروت)

دراما الصدفة

الإثنين 2013/04/01
دراما الصدفة
increase حجم الخط decrease
 تعرض قناتا "أل دي سي" و"أل بي سي" حالياً، في أوقات متفاوتة، مسلسلين للكاتب طوني شمعون والمخرج إيلي معلوف ("عندما يبكي التراب"، "للحب وجه آخر"). في المسلسلين: الكل يعرف الكل. الكل يتعثر بالكل. الكل يكتشف ماضي الكل. هذا يعرف ذلك. ذاك يتعرف على هذا. هذه تحب هذا. لكن هذا هو ابن ذاك. الكل عائد لينتقم. لكأن المدن كلها شارع واحد، يحوي منزلاً واحداً. 
 
عند مشاهدة مسلسلات كهذه، لا يفهم المرء كيف يتعثر الجميع بالجميع. يُعزى ذلك بالطبع إلى "تيمة" الانتقام. السر المخبوء سيُكشف في الحلقات الأخيرة، لكنه مكشوف للمشاهد منذ الحلقات الأولى! وتباعاً، لا يُفهَم الإصرار في مسلسلات، كتبها وأخرجها الثنائي نفسه، على التيمة والاكتشافات نفسها. وما هي هذه المساحة المكانية التي تجعل الجميع يرتطم بالجميع؟ ما هذا الانتقام الموروث من جيل إلى جيل، مهما طال الزمن؟ هل هذا التوارث الانتقامي، المحصور بعدم ارتكازه على السياسة ولا الطائفة ولا الثأر العشائري، يشبه فعلاً العلاقات الاجتماعية اللبنانية؟  
 
محدودية المساحة المكانية هذه ترافق الغياب الكلي للمكان العام. والمكان العام، إن حضر باسم بلدة أو مدينة، يظهر غير مقنِع. خصوصيته غير بارزة. هائم في زمن لا نعرفه، حتى تصبح المساحة المكانية نفسها مهوّمة. والأمر لا يقتصر على انعدام الفارق المضموني بتوالي المسلسلات، فلغة الحوار المشتركة لها نصيبها في هذه الانتاجات المتوالية. 
 
"ما تخلي حدن يغتال الحب اللي بيناتنا"، "هزيلي شجرة العيلة"، "ما أصعبها عليك يا ابني تاخد طريقين بذات الاتجاه: طريق الانتقام وطريق الحب"، "خليكي صاحبة القلب الكبير اللي بتستوعبيه"، "ما بخبرك كيف كانت النار عم تغلي بقلبي"، "أنا الحب بيطلع من عقلي وبينزل ع قلبي"... هذه عينات من حوارات المسلسلين المذكورين، ومسلسل آخر تعرضه القناة نفسها. لا يُعرَف السبب وراء هذه اللغة المستخدمة والتراكيب، المستقاة من إنشاء المدارس المتوسطة.  كيف يخاطب شخص شخصاً آخر باسمه الأول؟ كيف يتكلم اثنان عن ثالث باسمه الثلاثي كأنه أشهر انسان في المعمورة؟ وكيف نقع في حوارات غريبة عن الحب والعلاقات، على هذه الصفات المرشوشة؟
 
هذه اللغة لا تظهر في هذين المسلسلين فحسب، بل هي سابقة لإنتاجهما. من بدأ هذا الاسلوب؟ مروان نجار؟ شكري أنيس فاخوري؟ أنطوان غندور؟ غيرهم؟ لم يعد معروفاً، فالأسلوب تطبّع مع توالي العروض. نجّار كان يقول إن هذا أسلوب الكاتب، تماماً عندما يكتب مؤلف قصة أو مقالة. آخرون عزوا اللهجة البيضاء والكلمات الفصحى المهذبة (التي تثير الضحك عندما ينطق بها ممثل) إلى صعوبة اللهجة اللبنانية بالنسبة إلى المشاهدين العرب والضرورة الأولى لتسويقها أولاً. ظلت هذه الحجة قائمة مع الظهور الكمّي للمذيعات والمذيعين اللبنانيين على شاشات غير لبنانية، ومع استخدام بعضهم عبارات مغرقة في المحلية، على الأقل هي أكثر إغراقاً بأشواط من لهجة الدراما البيضاء.
 
حتى عندما طبّع بعض المسلسلات "لغة" الحوارات، وهذا حصل في بعض "منتجات" كلوديا مرشيليان وكتّاب أقل إنتاجاً، لم تتجرأ على تخطي حاجز اللهجات اللبنانية المحلية. فمع بسترة المكان، لا يعود مهماً أن تنطق الشخصية بلهجة بيروتية أو جبلية أو بقاعية، ونبقى محصورين بثنائية اللهجة المدينية، ولهجة الضيعة التي يجب أن تكون قاسية مقارنةً بالشخصيات المدينية. هذه البسترة الصوتية ترافق انفصالاً كلياً في المضمون وطريقة رسم الشخصيات التي لا تنزل الشوارع المزدحمة. وهي إن نزلت، انحصر حضورها في ثنائية الأحياء الفقيرة والأحياء الغنية. والأمثلة على هذه البسترة تتوالى. الصحافية (الشاطرة طبعاً) تطل من عالمها الآخر، حيث يتوفر لها المكتب العريض في الغرفة الواسعة. الرسامة ترسم في عالم فني مواز لكوكب الأرض. الشرطي خارج من "بوديوم" عرض الأزياء، مشذب الشارب مفتول العضلات (كما في المخافر اللبنانية طبعاً). أما محاولات الدراما السياسية والتاريخية فهول من الأهوال، حيث لا اغتيال سياسياً مقنِعاً (لكن فقط الأكشن الغريب الذي لم يعد يحصل حتى في أكثر الدراما رداءة)، ولا عشائر (وهي إن حضرت تحضر بشكل غير مفهوم).

الاقطاع السياسي مختصر بكلمة "البيك". الطائفية، في ظهور متأخر، تحضر مسطّحة، كما يلفظها مراهقون اكتشفوا للتو مشاكل البلد وحصروها فيها، فيما أسماء الأحزاب المتخيلة تأتي مضحكة، مستقاة من كتاب متوهم للتربية المدنية. الاستقلال، في مسلسل "باب ادريس" مثلاً، يظهر في حوارات "مودرن"، كأنه يحدث الآن في المولات التجارية. المناضل يناضل ضد الاحتلال "العثملّي" أو "الانتداب الفرنساوي" (الكل ضدهما إلا غير الوطنيين!)، في واحدة من أكثر المقاربات بَلادة لتاريخ البلد قبل الاستقلال. أما المُعاصر من الدراما فحدّث ولا حرج. يبدأ من عُقَد المراهقين، حدّ الأزمات النفسية، لأن هذا على الأرجح جاذب درامياً بحسب الكاتبة. ولا ينتهي بعبادة الشيطان، وهذه واحدة من أقوى الدلائل على محدودية البحث الذي يقوم به بعض الكتّاب، إن كانوا يقومون به.
 
المأساة التي تتراكم كمّاً على الشاشات، تتفاقم مع توالي العرض، وانحدار المستوى، ووجد بعضها طريقه إلى صالات العرض السينمائية في بيروت والمناطق. بل إنّ مخرجاً سينمائياً جيداً، مثل سمير حبشي الذي انضم إلى "التجربة" في بداية الألفية، لم يضف عليها شيئاً يذكر، ما عدا انتشاله التقني لبعض المسلسلات، من صورها الباهتة أيام كانت تُصوّر في استديوهات مغلقة... من دون أن يضيف حضوره أي تغيير على مستوى المضمون.
 
وإذ كان هناك من ممثلين لمعوا، من قبيل جورج خباز (رغم بلاهة مسلسلات شارك فيها)، وعايدة صبرا (في "حلونجي يا اسماعيل" إحد الانتاجات البيروتية النادرة بعد "الدنيا هيك")، وتقلا شمعون (في "من برسومي" و"روبي")، وكارمن لبس (رغم توالي أدوارها التلفزيونية متوسطة الجودة)، ورولا حمادة (في أكثر من دور رغم ثقل النص)، وندى أبو فرحات (في أدوار تلمع وحيدة رغم مشاكل المضمون الجمة)، وديامان عبود (في ظهورات متفرقة لا تُراكم)، وكارول عبود قبل زمن، وآخرين... فإن الظاهرة تنحصر في نجاحات فردية لا تكفي لإنضاج أعمال غير واقعية وبائسة تقنياً ومتشاوفة لغوياً وقاصرة مضموناً. 
 
حالياً، للوضع السياسي والانتاجي المتردي في بلدان مشهورة بإنتاجها الدرامي الكمّي، دور في دفع مسلسلات اللبنانية إلى العرض على شاشات فضائية عربية متخصصة. لكنّ هذا الدفع لم يتحول كمّاً بعد، وهو إن تحوّل، لا يكفي كضمانة لاختفائه مجدداً في ما بعد، ما إن يعود المحترفون العرب للإنتاج.
 
إنها دراما الصدفة، والصدفة لا تصنع صناعة.
 
 
increase حجم الخط decrease