الخميس 2018/06/28

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

كأس العالم..الغاية من الشماتة؟

الخميس 2018/06/28
كأس العالم..الغاية من الشماتة؟
increase حجم الخط decrease
قد يكون شهر كأس العالم، أسوأ فترة زمنية تمر على الكوكب كل أربع سنوات، فهو على عكس المناسبات الدينية السنوية، كرمضان أو عيد الميلاد، يتيح للمحتفلين به مستوى من المشاحنات والصدامات التي تترفع عنها المناسبات الأكثر روحانية، باعتباره حدثاً أرضياً بحتاً، مرتبطاً بالقوة الجسدية وبذل العرق البشري ومنكافات الأمم بشعبوية بعيداً عن الحروب التقليدية.


محاولة الانضمام لركب الحشد العام والتنكر بشعر مستعار مكون من ألوان العلم الألماني، باعتباري متعاطفاً مع فريق بوروسيا دورتموند، الذي جذبني إليه منذ طفولتي لون أزيائه الصفراء وقصة كفاحه من الإفلاس نحو صفوة الأندية الأوروبية، باءت بالفشل. صحيح أنني أميل للعب بالمنتخب الألماني في الألعاب الإلكترونية، من حين إلى آخر، إلا أن ذلك الانتماء يقف عند كأس العالم حيث أكتفي بتتبع النتائج، لأن الجو العام نفسه يصبح منفراً، ولا يقتصر على أنني لا أمتلك حباً خاصاً للعبة كرة القدم نفسها، مثل ألعاب أخرى كالتنس وكرة السلة.

وإذا كان العيش أصلاً في العالم العربي عملية مرهقة تستوجب كمية معينة من بذل الجهد للاستمرار على قيد الحياة يوماً بيوم، تصبح تلك العملية أكثر صعوبة طوال شهر المونديال، فإلى جانب الضغط النفسي من الاشتراكات الباهظة والمعلقين الرديئين وأعلام الدول التي تزيد مدناً مزدحمة مثل بيروت، تشوهاً بصرياً، واحتلال المساحات العامة، شبه المعدومة، بالضجيج والتشجيع، يرتفع مستوى المشاحنات والصدامات في الشوارع وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى شجارات يومية لا تنتهي، تصل إلى حوادث قتل غير مفاجئة بين المشجعين.

التنفس مهمة غير مريحة. الاختناق أمر طبيعي مع مستوى الضجر من نفس الحوارات ومن نفس المظاهر التشبيحية التي تغزو الشوارع. رفع العلم البرازيلي على سيارة لا يختلف عن رفع صورة لبشار الأسد أو فلاديمير بوتين على نفس السيارة، ورسم علم أرجنتيني على الوجه لا يختلف عن ارتداء قلادة بصليب صغير في نهايتها، واقتناء باروكة تمثل علم ألمانيا لا يختلف عن ارتداء الحجاب. المختلف فقط نوعية الآلهة المعبودة، بين الله ودييغو مارادونا أو زلاتان ابراهيموفيتش.

أتسلح بسماعاتي الراقية لعزلي عن محيط الغوغاء، أتابع مسلسلاتي المفضلة في "نتفليكس" وأنتظر انقضاء الشهر المونديالي السمج، بصمت. وأتحاشى في هذه الأثناء متابعة السوشيال ميديا، حيث تتجلى الشماتة وتتوسع، نحو أشخاص لا يتابعون اللعبة حتى ولا يشجعون فريقاً بعينه، بقدر ما باتوا يتحينون الفرصة للتنمر الإلكتروني، وإلحاق الأذى بالآخرين، ضمن سياق مجتمعي يبرر المضايقات الفردية في هذه الفترة، سواء بأنها "مجرد سخرية" أو أنها "لا تؤذي".

والحال أنه بالإمكان تفهم الانتماء الرياضي المونديالي في حالة مشجعي كل منتخب لفريق بلادهم، لكن المسألة تصبح معقدة في حالة الدول العربية، التي لا تمت لعالم الرياضة المعاصر بأي صلة، سوى المشاركات "المشرفة". وإن كان الانتماء الرياضي نوعاً من الوراثة العائلية أو محدداً بقيم يجدها كل شخص انطلاقاً من تجربته الفردية مع المنتخبات الأجنبية، تكون السخرية من الآخر الخاسر، أبعد من كونها مزحة بريئة، بل نوعاً من الاحتفال بخسارة القيم المضادة، أي القول: "أسلوبي في الحياة أفضل من أسلوبك" أو "رأيي صائب أكثر من رأيك".

وهذا النوع من الانتماء المونديالي لا يرتبط بالجنسية او الجغرافيا بقدر ما يعبر عن فردية تحددها جزئياً شروط تسويقية وتجارية، مع تحول المنتخبات والنوادي الرياضية لمنتجات ترفيهية تحمل قيماً ثقافية متعددة، فإذا كانت منتخبات البرازيل أو الأرجنتين ترميزاً للحرية والانطلاق بسبب مهارات لاعبيها الفردية، تعبر ألمانيا عن الانضباط، فضلاً عن التقسيم الحضاري للمنتخبات، الذي يحددها في النهاية كجزء من حضارات عربية وغير عربية أو حضارات مكافحة/ثورية وأخرى رأسمالية/متطورة (غربية) تبعاً لخطوط التقسيم الحضاري التقليدية، والتضارب بين كل هذه القيم، يولد في النهاية تشنجاً يظهر بصورة شماتة وتنمّر ومتعة سادية في التلذذ بهزيمة الآخر تتفوق جميعها على المتعة المفترضة في مشاهدة كرة القدم نفسها.

المشهد لا يكتمل من دون وجود عامل نفسي إضافي، أقرب لانخفاض في تقدير الذات على المستوى الجمعي، وهو أمر يمكن تفهمه في حالة المجتمعات العربية، التي تمارس على الأفراد ضغوطاً يومية تكسر من خلالها الهوية الفردية لصالح هوية مجتمعية تحدد ما هو الصحيح وما هو الخاطئ وما هي المعايير كي يكون الشخص نموذجياً.  وهذه الآلية تتكرر على مستويات تبدأ من بنية المجتمع العائلية - الأبوية نحو مستويات أعلى تحدد شخصية الدولة نفسها. وبالتالي تصبح السخرية تحدياً للنمط السائد في محيط كل فرد، إن كان متمرداً على النمط الاجتماعي، أو تكريساً له بعد الانسحاق به والتوحد فيه.

مع خسارة المنتخب الألماني وخروجه التاريخي من المونديال، في مباراة لم أتابعها لحسن الحظ، أشعر أني مستهدف من قبل عشرات المتربصين. وأتذكر ما كتبه أحد أصدقائي المقيمين في ألمانيا قبل أيام: "عندما فازت البرازيل على ألمانيا في كأس العالم عام 2002 في كوريا الجنوبية، اتجه المئات من الجمهور الألماني المتواجد في مدينة آخن أمام شاشة كبيرة لتهنئة بعض الطلبة البرازيليين الذين كانوا يتابعون المباراة ولم يسخر ويستهزىء أحدهم بالآخر. الرياضة أخلاق والتشجيع أخلاق أيضاً. علينا أن نراعي مشاعر أصدقائنا إن خسر فريقهم أو لم يحقق شيئاً. لا أعرف ما الغاية من الشماتة بالصديق؟ أحياناً لا رغبة لدي بالشماتة في العدو!".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها