الإثنين 2022/02/07

آخر تحديث: 14:13 (بيروت)

خطوة أولى للعبور

الإثنين 2022/02/07
خطوة أولى للعبور
في الجميزة.. بعد أيام على انفجار مرفأ بيروت (غيتي)
increase حجم الخط decrease
فيما كنت أشاهد محاولات إنقاذ الطفل ريان، من البئر الذي سقط فيه في إقليم شفشاون شمالي المغرب، حضروا في ذهني، كل من قضوا تحت الأنقاض في انفجار مرفأ بيروت، وذلك النبض الأخير الذي تتبعته آلات الإنقاذ من غير جدوى، حتى خفُت بالكامل. كنا ننتظر معجزةً ما، خروج كائنٍ واحدٍ حياً على الأقل من هذه المجزرة، سواء كان شخصًا أو حتى هراً، كما تنبأ البعض. كنا ننتظره بيقينٍ، بإيمانٍ كمَن ينتظر إشارة ما على أن الحياة لم تزل ممكنة، لعل ذلك الناجي الوحيد من الإنفجار يكون مُخلّصنا ومُنقذنا.

وأنا أتذكر تلك اللحظات، بَكيتُ مطولًا وليس لي أن أدّعي أنّي كنت أعيد رثاءهم، كل أولئك الضحايا الذين في غالبيتهم هم مجهولون بالنسبة إلي، بل كنت أبكي نفسي، لأن في موتهم الماضي والآني، وفي استذكارنا العابث لجريمة بهذه الفظاعة يتم التعامل معها بكل اللا-مبالاة  اللازمة لطمسها وكأنها تقريباً قضاء وقدَر، كما جرى التعامل مع كل الجرائم في تاريخ هذا البلد، ما يضيف إلى هشاشة الحياة البشرية، حتى تضحي كل لحظةٍ من العيش أشبه بنجاةٍ من أجلٍ مسمّى.

والأسوأ أن ذلك الأجَل لا ينتحل صفة المجهوليّة، بل هو واضحٌ أمامنا وندركه بيقينٍ وددنا لو نستطيع تجاهله. فسياسة التفلّت من المسؤولية والعقاب، تفضي دائماً إلى كيانٍ آخرٍ مبهم "أكبر مني ومنك" هو الفاعل، سواء كان ذلك من عمل الشيطان الأكبر او الأصغر، أو هو من تبعات الانفجار الكوني أو تبعاً لمنطق شاء الله وما قدَّر فعل. المغزى الفعلي لكل ذلك العبث أن نتجنب ذِكرَ المتهمين الأساسيين لأن العدالة هي ما يهدد السلم الأهلي في لبنان. في حين أن في فِعل التستّر على الجريمة ما سيمهّد لنا، بلا شك، طريقاً معبّداً بالزهور نحو مستقبلٍ واعد.

وبعد ردّ الفعل الأوليّ الذي قوامه الانفجار والغضب، ينصرف اللبنانيون عادةً  الى استراتيجية مقاومة تتلخص في الدعاء اليومي على كل الأطراف والمسؤولين: "انشا الله يموتوا كلن"، الدعاء الذي، على ما يبدو، ما زال غير مُستجاب، وبات أشبه بالتحية اليومية في بيروت. من بعده، ينصرف كلٌّ إلى ملاحقة بؤس حياته. هناك مفهوم شامل ومركّب بالطبع، أكثر تعقيداً إذا ما تجاوزنا روح السخرية. لكنه في النهاية يفضي إلى معلومة واحدة مبسّطة الفهم، يجري التأكد من ألا تفوتنا كل يوم، وعبر ممارسة مختلف سُبل العنف المعنوي أو الجسدي، وهي أننا جميعاً لا نستحق الحياة ولا حتى موتاً أقل بشاعة. وفي رفضنا لهذا الموت، فإننا نستحق، في نظَر مَن تندرج ثقافته ضمن "يوميّات القتل العادي "، مصرعًا أكثر وحشية.

نكتب، مع اقتناعنا الراسخ بأن الكتابة وغيرها من سبل التعبير قد لا يكون لها جدوى بغير إراحة النفس وتطهيرها. نكتب، مع إدراكنا أن كل تلك القضايا التي ندافع عنها قد تكون خاسرة بإمتياز، بحسب معيار الإنتصارات التي يحققها الطغاة. لكننا، إن خسرنا هذه القضايا، فلن نتعرّف على أنفسنا. نكتب، مع البغض الذي نكنّه لأنفسنا وللكتابة، ولمبادئنا ولكل ما يشكل عالمنا وأحاسيسنا، وما نكون عليه. إذ أن كل تلك الأخلاقيات غير قادرة على أن توقف مسار رصاصة واحدة. أكتب، مع إدراكي التام بأنه ليس في وسع القلَم أن يتواجه والسلاح، حتى لو حلا لنا مراراً أن نكرس هذا المجاز. لكن يبقى للقلم دوراً أساسياً، بخلاف تلك المجازات، فهو الراوي. و إن كان من مقاومة فعلية ممكنة لنا، في هذا الوقت، فهي في فعل السرد نفسه، وحريته.

ضحكنا مطولاً لما خرج ميشال عون، إبان قيام ثورة 17 تشرين، ليقول لنا على الملأ: "إذا مش عاجبكن.. هاجروا". ضحكنا، ولعلّنا لم ندرك تماماً في حينها أن في سوريالية القول، حقيقة مبسّطة ومختصرة، ستُتَرجم فعليّاً على مدى السنتين التاليتَين. أفكر في مفهوم العدل نفسه، في تأبين الناشر والباحث والمخرج لقمان سليم، في ذكراه السنوية في الثالث من شباط. في تظاهرات أهالي ضحايا المرفأ. فإنّ ما نطالب به دوماً هو العدالة. تلك كلمةٌ، من فرط ما استخدمناها وطالبنا بها من غير أن تتجسّد وتتمثّل ضمن مفهوم واضح، باتت تختصر مظالم لا تُعدّ ولا تحصى، وكأنها باتت طيفاً أو مجازاً.

مفهوم العدل ليس بمُطلقٍ ويحتمل بالطبع قدراً من النسبية. لكن، أظن أن ما وصلنا إليه، في هذه الآونة من تاريخ لبنان، قد يُختَصَرُ في مفهوم واحد، و هو "مُطلقيّة الظلم". هتف الثوار ذات مرة، أثناء ثورة 17 تشرين: "نريد العبور". توقفتُ حينها مليّاً عند تلك العبارة، مُحاولةً تصوّر صيغة أو مفهوم واضح لما نريد العبور إليه. وإذ أستعيد العبارة في هذه اللحظة، يخطر لي أن الخطوة الأولى في ذلك العبور قد تكون في الخروج، على الأقل، من "مُطلقيّة الظلم".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها