السبت 2020/10/17

آخر تحديث: 16:54 (بيروت)

حين خرجت أصواتنا من تحت الكمامات شبيهة بأنين المدينة

السبت 2020/10/17
حين خرجت أصواتنا من تحت الكمامات شبيهة بأنين المدينة
قد لا يكون من حظنا أن يستمتع جيلنا بالنصر (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease

منذ بداية ثورة 17 تشرين، تقريباً، لم أستطع أن أكتب شيئا عنها. وليس بطبيعة الحال لأنه لم يكن لدي شيء لأقوله. بل لأن مشاعري وأفكاري تجاه كل ما يحدث كانت مكثفة وصاخبة لدرجة يصعب أن أعبر عنها، ولأن الكتابة تتطلب أخذ مسافة معينة مما نعيشه، مما لم أستطع فعله. شعرت في حينها أن الأهم هو التواجد في ذلك الزمن المدهش، الذي لن يتكرر مهما تبعه. وأظنهم كثراً من شاركوني الشعور نفسه من رفاق وزملاء على اختلاف مهننا. فمن كان ليتخيل يوماً أن حياتنا ستنقلب وتتحول على هذا النحو، فتصبح يومياتنا ولقاءاتنا كلها تدور في ساحات الثورة، ونتحول فجأة لجنود متمرسين في مواجهة بطش قوى الأمن وقنابل الغاز التي تلقى علينا من كل حد وصوب (وهنا لا أتكلم تحديداً عن نفسي فقد تكون واتتني لحظات من الشجاعة، إلا أنها لا تقارن بشجاعة الرفاق المذهلة التي شهدتها)، ثم مؤخراً على ما يبدو، تحولنا إلى جنود محجور عليهم بين حيطان منازلهم نحارب كأنما طواحين الهواء..

شيطنة الثورة و"الثنائي الشيعي"
منذ أسبوع كان عيد ميلادي، انتبهت في حينها أنه يتزامن هذه السنة تقريباً مع تاريخ بداية ثورة 17 تشرين. مشاعري تجاه يوم قدومي إلى هذا العالم كانت تشابه تقريبا شعوري تجاه مرور عام على الثورة، فهل عاد العداد إلى الصفر؟ وهل يمكن اعتبارها مرثية أم احتفالية؟ فكرت كثيراً إذا ما كان مناسباً أن أقحم جانباً من شخصي أو حياتي في مقاربتي لثورة 17 تشرين. لكنني لم أجد مفراً من ذلك إذا ما أردت أن أكتب بشفافية. فثورة 17 تشرين باتت لا تنفصل عن تاريخي الشخصي أو تاريخ جيلي بأكمله. نحن جيل الثمانينات الذي لم يعِ بيروت إلا مدمرة بالكامل، نبحث بين زواريبها عن مدينة متخيلة في الذاكرة، ما بين قلة من المباني التي لم تهدمها الحرب أو أمكنة إعادة الإعمار الهمجية التي قضت على ما تبقى منها. أعود بالذاكرة إلى 17 تشرين العام الفائت. لم يدرك أي منا فعلياً أنها ستكون بداية الثورة التي انتظرناها طويلاً، بالأخص منذ تحرك 2015 الذي كان أولى البشائر وبدا أنه قضى إلى غير رجعة. ما شهدناه في الأيام الأولى، والذي كان مؤشراً لنا في حينها على هول ما يحدث أن جزءاً لا يستهان به من سكان الضاحية والشياح قد شاركوا في التحرك. وطبعاً كثر قدموا من كل أطياف أو طبقات المجتمع، مع عدم التبني لهذا التوصيف. لكننا أدركنا في حينها أننا قد نكون أمام ثورة شعبية جامعة لأول مرة في تاريخ البلد. من كان ليتخيل أن أي تظاهرة لا حزبية في لبنان قادرة على أن تحشد الملايين. طبعاً، جزء لا يستهان به من المشاركة الشعبية من المناطق المهمشة والبيئة الحاضنة لحزب الله قد انسحب تدريجياً من الثورة في الأسابيع التي تلت. وفي الوصفين "المهمشة" و"البيئة الحاضنة لحزب الله"، يبرز كل التناقض. فكيف للبيئة الحاضنة للحزب الأقوى تسليحاً وتمويلاً في البلد أن تعاني من الشح الاقتصادي؟ لكن في ذلك كل المعنى. فالإنسان ليس قضية أي زعيم في هذا البلد ولا نستثني أحداً لا من معسكر 8 ولا 14 اذار. تماماً كما معظم أنصار القضية الفلسطينية "سابقاً". وربما سينطبق هذا القول على كثيرين، فيما نشهد أنه لا يعنيهم أي شيء الفلسطيني بحد ذاته. ومن كان حاضراً في الساحات يعرف جيداً الضغط الذى مورس على القادمين من هذه المناطق تحديداً للتراجع وإعادة التقوقع. أذكر كل هذا لأن ما جرى بعدها هو حضور مناصري "الثنائي الشيعي"، الذين أُرسلوا مراراً وتكراراً لترويع الثوار. كان المراد منهم تحوير الوقائع والإيحاء بأن هذه الفئة المسالمة من سكان المناطق التابعة لبيئة الحزب لم تشارك مطلقاً في الثورة، أو جرى الترويج للرواية الأخرى القائلة أن جمهور الحزب هو من قام بالثورة والبرجوازية النخبوية التي انضمت لاحقاً هي من سرقتها. طبعاً الكل شارك في مسرحة الثورة وتسييسها من 8 آذار و14 آذار. أيضاً، لا نستثني الإعلام اللبناني. الكل ساهم بطريقة أو بأخرى في مشروع تخوين الثوار أو شيطنتهم ووصفهم بالإرهابيين والمخربين. فالشعب المنفصل عن السلطة هو بالنسبة لهؤلاء مفهوم غير موجود تقريباً. ما حدث أننا رأينا أنفسنا في الساحات، نحن غير المرئيين، بذهول عارم. نحن الذين كنا نظن أنفسنا أقلية الأقليات، اتضح لنا فجأة أننا لسنا أقلية أبداً. بل نتجه لنكون الأكثرية. وهذا ما لا يمكن تجاهله أو نسيانه. أذكر مثلا قول الحاجة الجنوبية التي تسكن في الضاحية والتي ألتقي بها منذ حراك 2015: "يا بنتي نزلت لأن بدي زوّج إبني من سنين وافرح به، ما معنا مصاري ولا ابني ملاقي شغل.. مش من حقنا نفرح؟".

النساء طبعاً
طبعاً، كثر تغنوا بمشاركة المرأة اللبنانية بالثورة وسط مقولات بلهاء كالمرأة ثورة وإلخ. لا تعنيني بشيء. إذ أن هذا الاستهجان يوحي أن مشاركة المرأة في الثورة هي فعل عجائبي أو غير منتظر، فيما هو طبيعي ومتوقع بالكامل.. ويعود إلى ذلك المشهد في الليلة الأولى التي انطلقت فيها الثورة على جسر الرينغ، لإمرأة شقراء لا أعرفها، قامت هي بقطع الطريق بالإطارات المشتعلة. رغم ذلك، ما يعنيني قوله أن النساء اللواتي شاركن في الثورة على مختلف انتماءاتهن وأعمارهن فعلن ذلك بكل اعتيادية ومن دون أن يعتبرن أن في ذلك ضرباً منفرداً من الشجاعة، من قطع الطرق إلى قيادة التظاهرات ومجابهة قوى الأمن. ومن بينهن، رفيقات قد يكن معروفات في نضالهن، لكن أيضاً أكثرية كبيرة من النساء على مختلف خلفياتهن نزلن مندفعات بشعورهن الفردي والجامع أيضاً كمواطنات، مثل ما تبقى من ثوار. الملاحظة الوحيدة التي تستحق الاهتمام هي أن هذه المنظومة الذكورية الرجعية والمتخلفة في قوانينها، وبخاصة قوانين الأحوال الشخصية والحضانة وما يخص التحرش الجسدي أو اللفظي أو الإغتصاب، والمهينة لنا كأفراد قبل أن نكون نساءً، حان وقت إسقاطها بالكامل. لم أعتبر يوما نفسي نسوية بل مجرد فرد يثور من أجل كرامته.

مراكب النجاة أم الموت؟
كلما كتبت أدركت كم هو صعب أن نصف الثورة على نحو ملموس أو ما يفيها حقها. فما عشناه في هذه السنة يبدو ضرباً من الخيال. أعود بذاكرتي لمشاهد معينة أو شخصيات أخرى قابلتها، تبدو لي أكثر تعبيراً من تحليل الوقائع التي توالت وتشابكت، حتى بتنا كما الفئران العالقة في متاهة. أذكر سلمى صديقتي التي تعرفت عليها في بداية الثورة. وكانت دائما تجلس وحيدة. سلمى عمرها ربما في نهاية العشرينات. لكن لم تزل تحتفظ في ملامح وجهها وطرق تعبيرها الطفولية المحببة بشيء فريد، غالباً ما يفقده أغلبنا مع خوضه في الحياة. سلمى تعاني من مرض كهرباء الرأس، وأحيانا تجد المال لشراء الدواء وأحيانا لا يتوفر. تحاول أن تجد أي عمل منذ سنوات ولم تنجح في ذلك. قابلتها ذات يوم وأخبرتني بفرح عارم أنها وجدت عملاً إذ خطر لها أن تبيع القهوة في ساحة الشهداء. أسرّت لي سلمى أيضاً- التي لم يتسن لها أن تكمل تعليمها بسبب فقر الحال- أن حلمها أن تصبح صحافية. ضحكت وأخبرتها أنها مهنة شديدة البؤس، وأن القهوة التي تبيعها هي ألذ من كل المقالات التي قد أكتبها أو أقرأها.

وإن كانت البنوك صادرت أموالنا هذه السنة وبتنا جميعاً نعاني من الانهيار الاقتصادي الحاصل، فأكثرية من هذا الشعب من المناطق الأكثر تهميشاً كطرابلس مثلاً، تعيش تحت خط الفقر في العقود الأخيرة، ولم تقم ثورة شعبية بهذا الحجم إلا تحت تهديد الجوع المقبل، والانهيار الاقتصادي الذي حدست قدومه الطبقات الأكثر فقراً قبل غيرها. قد نتسائل  كيف خطر لفلان أن يصطحب مثلاً أطفاله في مركب تهريب مغامراً بحياتهم . يسمونها مراكب الموت، لكنها فعلياً مراكب النجاة بالنسبة لهؤلاء، ولو أنها نجاة ملتبسة. إذ لما تضحى الحياة غير محتملة، فمما نرجو النجاة، من الحياة أم من الموت.

الهلع والشراسة
توالت الأيام والليالي وكنت قد ابتعدت لفترة بسبب مرض والدي في حينها. وإذ عدت، كانت ساحة الشهداء مقفرة. فـ"الثنائي الشيعي" في حينها أرسل إلى الساحة منظّرين أكفاء، كان هدفهم تثقيفنا وتعليمنا.. وترهيبنا، بطريقة متمدنة، وطردنا من الساحة، ومن جانب الرفيق رياض الصلح الساهر على ثورتنا والشاهد على حراكنا منذ 2015. وكان الحصار قد بدأ على جميع المستويات الاقتصادية. إذ بدلاً من استرجاع أموالنا المنهوبة من العصابة الحاكمة، صادروا أموالنا نحن، رافقه التعتيم الإعلامي الذي أعاد تبني لغة العصابة الحاكمة، واكتفى بتصوير سيرك المناوشات المفتعل ما بين الثوار التي تديره الأحزاب من جانب 8 و14 أذار، يضاف إلى ذلك، بطش قوى الأمن التي باتت تستهدف حتى أعيننا: هل يريدون ألا نراهم أو أنهم لا يتحملون كيف نراهم؟ هجم علي ذات يوم عنصر من حراس مجلس نبيه برّي الخاص به. ما بين الهلع والشراسة، لم أميز أيهما أكثر حضوراً في نظرته. لكنه كان يحدق بي كالعدو الغاشم، أنا المسلحة بكاميرا في يدي. لقد ابتلينا بعصابة حاكمة اتضح أنها أشد حنكة من كل الديكتاتوريات في العالم العربي. وأخيراً، حل علينا الوباء العالمي. وبدا  كأنه يضاف إلى كل المؤامرات الأخرى التي حيكت ضد هذه الثورة برعاية الكون الغاضب علينا منذ وجد الإنسان وزعزع سكينته الأبدية.

ولأن كل ذلك لم يكن كافياً، كان على الأرض أن تهتز وتنفجر فينا فجأة، وأن نكتشف أننا نعيش فوق أطنان من الأمونيوم، حتى الآن صاحبها رسمياً مجهول  حسب الرواية الخرافية للسفينة الضائعة ما بين جورجيا والموزمبيق، والتي بالصدفة خزنوها في مرفأ بيروت. واستمرت الحرائق تندلع لأسباب غامضة وكأننا بتنا نعيش فوق فوهة بركان، وصولاً مؤخراً إلى اتفاقية ترسيم الحدود. وفجأة كأن الأدوار انقلبت. فأصحاب نظريات المؤامرات الوهمية خرسوا بالكامل. أما نحن فيبدو أننا من دفع بدمائنا ثمن كل شيء من دون علمنا ولا اختيارنا.

بعد الانفجار
للسخرية، قد يبدو أننا جميعاً قد خسرنا. جميعنا، أي من هو مؤمن بالثورة ومن هو مؤمن بقضايا زعيمه. فهل إذا لم يجمعنا حبنا لهذا الوطن، قد يكون هذا الانهيار الجماعي الحاصل قادراً على توحيد الصفوف مع مرور الزمن؟ أذكر مباشرة بعد الانفجار، كنت أتحدث مع صديقتي عن بيروت التي قدمتُ إليها في السادسة عشرة من العمر. وفي سني الصغير آنذاك وخيالي الواسع شردت فيها وفي مقاهيها وزواريبها. بدت لي بيروت الصغيرة في وقتها أشبه بنيويورك، وإن لم تكن سوى بضعة شوارع تلك التي أمضيت معظم حياتي فيها، الحمرا والجميزة وعين المريسة.. مع الوقت، حتى قلة الأماكن هذه التي كانت تجمعنا ونحس تجاهها بالألفة وبنفسٍ من ذاكرة بيروت، بدأت تختفي تدريجياً، ليتم استبدالها بواجهات بشعة لمحلات أو مقاه تجارية لا نحس تجاهها بأي صلة حقيقية. رغم ذلك، ظللنا نتشبث بأي مكان فيه بعض من هوية هذه المدينة. وكنت أسافر وأعود إليها ولا أعرف سبباً مقنعاً أو منطقياً لذلك، سوى ربما أنه كان فيي خوف أن أعود لبيروت فلا أتعرف عليها بالكامل. وبدا أن هذا الانفجار الأخير قد قضى بالكامل علينا وعلى ما تبقى من هذه المدينة.

ما خفف من وطأة شعوري التام بالإنكسار هو ما حدث في السبت الذي تلا الانفجار. ما شهدته في ذلك اليوم عبر كل الجموع الهائلة التي انتشرت في كل شوارع بيروت، في استرجاع وزاراتنا المحتلة، ولو لهنيهة من الزمن، بالرغم من مخابرات الجيش التي كانت تترصد بنا في الخارج وتستعد للإنقضاض، وبالرغم من احتمال هجوم مناصري "الديو الموسيقي" في أي لحظة، هو شجاعة هائلة. صحيح أننا في صدمتنا وحزننا كنا تقريباً نمشي كالزومبي ومكممين أيضاً، رغم ذلك، خرجت أصواتنا من تحت الكمامات شبيهة بأنين هذه المدينة وعلا صداها لنقول لهؤلاء الذين لا يعترفون بوجودنا ولا يكترثون بحياتنا أو مماتنا، ما دام فينا بعض النفس، فهذه البلاد لنا.

ليست مباراة
هل فشلت الثورة أم نجحت ؟ لا أظن أن ذلك قد يكون السؤال المناسب طرحه الآن. فليس هدف الثورات أن تستحصل علامة النجاح. هدفها أن تهز عرش الطغاة وتزعزع أسس هذه المنظومات العفنة التي تحكمنا. وهذا ما نجحت هذه الثورة بفعله على الرغم من كل شيء. تحدث الثورات ببساطة لأن الواقع القائم لم يعد بالإمكان احتماله. قد تتطلب سنوات طويلة لنشهد التغيير الحقيقي الذي نطمح إليه، وسقوط هذه المنظومة بالكامل. لكن الشرخ الذي تم إحداثه في هذه المنظومة قد حصل، وسيستمر بالتمدد، تماماً كأثر صدع صغير في الزجاج إلى أن يتهشم بالكامل. قد لا يكون من حظنا أن يستمتع جيلنا بهذا النصر فعلياً. لكن ما حدث في 17 تشرين لا يمكن إلغائه. فجزء لا يستهان به من الأكثرية الصامتة في هذا البلد، غير المرئية تقريباً، عثرت على صوتها وأثبتت وجودها. هنالك جيل جديد بأكمله بخلاف جيلنا والأجيال التي سبقت، كوّن علاقة مختلفة كلياً مع السلطة القائمة وإدراكاً مغايراً لها. هذا الجيل الذي كنا نظنه منفصلاً تماماً عن هويته، بدا أن تلك نقطة قوته وسبيل نجاته. فهو جيل ولعدم اكتراثه تقريباً بتاريخ الإنكسار العربي، أو جهله حتى به، خرج من القوقعة، وتجرأ على أن يطالب بوطن وبمواطنية حقيقية.

السجال القائم حول فشل الثورة، وإذا ما كنا خذلنا أنفسنا كما يحلو للبعض أن يستفيض بأدبياته، يشابه بالنسبة لي جلد الذات الذي اعتدنا عليه، واحتقار أنفسنا فيما يتفق مع نظرة السلطة لنا و"خورفتنا" (من خروف) القائمة منذ عقود. فالثورة ليست مباراة فوتبول ضد السلطة، حتى نتبرأ منها إن لم تفز بالنصر الساحق. وإذا ما كانت ثورتنا قد خسرت المباراة، بنظر البعض، فأنا مع كل الثورات التي قد تعتبر خاسرة بهذا المعيار من لبنان إلى سوريا إلى العراق. فحتى الحياة برمتها هي محاولة لا يخرج منها أحد إلا خاسراً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب