الإثنين 2018/05/28

آخر تحديث: 15:49 (بيروت)

رحلة التهجير: هل كنا شعباً واحداً؟

الإثنين 2018/05/28
رحلة التهجير: هل كنا شعباً واحداً؟
ظاهرتان رافقتانا: الإصبع الوسطى.. واللامبالاة، كشعور جمعي طبيعي في "سوريا الأسد" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ما إن أعلن عن اتفاق تهجير ثوار وأهالي جنوب دمشق، إلى الشمال السوري، بداية شهر أيار/مايو 2018، حتى بدأت طلائع الذكريات عن السنوات الثماني الماضية، تتدافع في ما بينها، في محاولةٍ للاستيلاء على البال المنهمك في ترتيب أولويات رحلة التهجير. هي الرحلة التي بدأت بدخول سبع حافلاتٍ صباح الخميس 10 أيار، بعد تأخّر لأسباب ميدانية، وكان الصباح الأخير لنا في دمشق. فالحافلات في الدفعات السابقة، كانت قليلة. وقد تعثّر دخول القافلتين السابقتين، الخامسة يوم الإثنين، والسادسة يوم الثلاثاء، إلى ريف حلب المحرر، بقرارٍ تركيّ. ثم تسبب "عيد النصر الروسي"، يوم الأربعاء، في تأجيل عملية إجلائنا إلى الخميس، وانقسمت الدفعة الأخيرة في اتجاهين، الأولى وجهتها إدلب وتُقلّ 133 شخصاً قسمٌ كبير منهم من النساء والأطفال، والثانية إلى ريف حلب الشمالي بتعداد 357 شخصاً.

وباعتبار أن قافلتنا كانت الأخيرة، وأعداد المدنيين والمقاتلين فيها قليلة، بعد أيام من الضغط والازدحام الهائلين في الدفعات السابقة، استطعنا بسهولة تأمين حافلات الرحلة، فعبرت من مدخل بلدة بيت سحم من جهة طريق مطار دمشق الدولي حيث يسيطر النظام، إلى محيط "دوار الجمل" في البلدة. فبدأ توافد العائلات والمقاتلين، مع أمتعتهم التي تبدأ بهويّاتهم الشخصية والأوراق الثبوتية الرسميّة، وتنتهي بالكتب والمكاتب الصغيرة، ألعاب الأطفال، عدّة المطبخ، وحتى طيور "الكناري" والقطط "الشيرازية" التي رافقتنا خلال الحصار، وها هي تبدأ معنا عهد التهجير الجديد. فغموض المستقبل وظروف الحياة في الشمال السوري، أجبرت عائلات جنوب دمشق على نقل كل ما تستطيع حمله وحشره في "باكاجات" الحافلات، وعلى أسقفها وبين المقاعد، لأن العودة قد لا تكون قريبة.

وبينما شرع الأهالي في نقل أمتعتهم إلى الحافلات، استغل السائقون الفرصة لأخذ قيلولة سريعة في بيتٍ عربي لأحد الأصدقاء. فثلاثة أيام من السفر في رحلات سابقة، كفيلة بإنهاكِ أكثرهم تحمّلاً، خصوصاً في هذه المهمّة الجبرية التي ساقها "القدر" خلال مرورهم في شوارع العاصمة. إذ اعتاد عناصر مخابرات النظام، خلال عملية تهجير جنوب دمشق، توقيف أي حافلة يصادفونها في شوارع دمشق، والذهاب بها إلى منطقة تجمع الحافلات لإتمام عملية التهجير. هكذا يكون "الحظ العاثر"، حسبما قال سائق الحافلة "5" التي أقلتنا إلى الشمال، وهو ابن مدينة دير الزور المنهك من رحلة التهجير أكثر منا.

مضت ساعات. كانت الطائرات الحربية تُغير على أحياء مخيم اليرموك والحجر الأسود والتضامن، الخاضعة لسيطرة "داعش"، فيما نحن ننجز "تكديس" المتاع في الحافلات. في هذه الأثناء، جاءنا أبو فواز وأم فواز، زوجان طاعنان في السنّ، من حي القدم الدمشقي. أبو فواز قليل السمع، لكنّه صاحب عزيمة قويّة. أم فوّاز محنية الظهر بحيث يتوازى عمودها الفقري تماماً مع أفق الطريق. قال لي أبو فواز: "بدنا نطلع ع تركيا"، أجبت: "طريقنا على إدلب يا حجي"، فردّ: "على إدلب أو جرابلس، المهم نطلع، ابني هنيك عم يستنانا". دخلا الحافلة ومعهما كيسان صغيران فقط. لعلهما كانا أكبر المهجرين سناً، وأقلّهم حملاً للمتاع والذكريات، من بين أكثر من 9 آلاف شخص. والحقيقة أن الأمر، بعد قليل من التفكير، لا يعود مستغرباً.. فما الذي سيدفعهما لحمل أكثر من ذلك بعد كل هذا العمر؟

أدار السائقون مفاتيح تشغيل الحافلات، وانطلقت الرحلة بعد وداعاتٍ لا تنتهي. دموع الآباء والأمهات على رحيل أبنائهم، الصحب على فراق أصدقائهم، النساء على مغادرة أزواجهن. روائح الفراق هفّت بين الأضلع المتعانقة، ثمّ تلاشت بين ركام البلاد مع تلويحات الأيادي الأخيرة خلف نوافذ الحافلات المتسخة. وما هي إلا دقائق، حتى وصلت القافلة إلى مدخل بلدة بيت سحم، حيث حاجز التفتيش المشترك بين الاحتلال الروسي ومخابرات النظام، وبدأت عملية التفتيش.

دخل "تيمور"، المترجم الروسي إلى العربية، ليلقي بعض التعليمات داخل الحافلة قائلاً: "سيدخل عنصران للنظام، أحدهما للميمنة والثاني للميسرة، وسيبدآن التفتيش في الحقائب والأكياس التي معكم". حدّد "تيمور" مجموعة من الأشياء المحظورة خلال رحلة التهجير، وأردف: " انتبهوا يجب أن تكون العملية عملية تفتيش وليست عملية تعفيش"، وضحك الجميع بمن فيهم تيمور، فقلت له: "آه، تعلمون إذاً بشكل جيد عن التعفيش والمعفّشين"، فهزّ رأسه باسماً، ثم خرج. لتدخل مجنّدتان من أجل تفتيش النساء شكليّاً. في الخارج أيضاً، توزعنا لمراقبة عملية تفتيش "الباكاجات" الجانبية. شابٌ منا، ومسلّح من كل جانب في الحافلة، وتحيط بنا عناصر من مخابرات النظام. كان اللثام مفيداً جداً في هذه الحالة، إذ حال دون أن يتجرّأ علينا أحد. وخلال 10 دقائق انتهينا، بعدما دوّن عنصر آخر عدد الركّاب والأسماء والبيانات الشخصية التي كانت وهمية بطبيعة الحال. العملية مرّت بسلاسة، بحضور ضباط روس كانوا يراقبون كل شيء لإنجاز التفتيش بلا أي مشكلة. حتّى أن عناصر من المخابرات حاولوا "تعفيش" بعض الذخائر المسموح بإخراجها، لكنّ الروس المعنيين أكثر بالقوائم والكميات المتفق عليها، منعوهم.

عاد الجميع إلى الحافلات بعد انتهاء التفتيش، وانطلقنا للتزوّد بالوقود، فأوقفونا في شارع موازٍ لطريق المطار. بقينا قرابة الساعة، نزل خلالها الركّاب وتحرّكوا في محيط الحافلات. قضوا حوائجهم، ومارسوا طقس التهجير الذي لا يستغني عنه أحد: التقطوا الصور مع أعلام الثورة على مرأى من عناصر النظام وسياراتهم المزوّدة برشاشات متوسطة. في المقابل، وفي إطار النكاية والاستفزاز، رفع أحد عناصر المخابرات صوت مذياع السيارة التي يجلس فيها، على وقع أغنية مؤيّدة للأسد الأب والابن. لم أهضم ما حصل، فتوجّهت إلى الحافلات الأمامية والتي تفصل بينها سيارات لعناصر المرافقة، وهم تحديداً من فرع الدوريات/شعبة الأمن العسكري. تحدّثت مع عنصر كبير في السن، وقلت له: لا داعي للاستفزاز، فلتجرِ العملية بسلام، فما رأيك لو شغّلت بدوري أغنية ثورية ورفعت الصوت عالياً؟ أومأ العنصر موافقاً، وذهب إلى السيارة التي تصدّح منها الأغنية الأسدية، تحدّث لدقيقة، وانخفض صوت المذياع كليّاً. ثم جاءنا عنصر كان واقفاً بالقرب من السيارة، وقال: "يا شباب أي شي بتحتاجوه منا، خبرونا عليه، منحلّه بين بعض".

تحرّكت الحافلات ببطء إلى مدخل طريق المطار. وزّعت منظمة الهلال الأحمر الخبز والماء وكراتين الإغاثة على المهجّرين. ولحظة بدء مسيرة القافلة، بدأ منسوب التوتر والقلق بالارتفاع تدريجياً. ستكون رحلة مشوبة "بالزعرنات"، خصوصاً في قرى ومعاقل الشبيحة، والتي باتت معلومة في خطّي السير إلى إدلب وشمال حلب، ومنها "شارع الستين" في حمص المدينة لمن يتوجه إلى شمال حلب، و"بيت ياشوط" بريف طرطوس لمن كانت وجهته إدلب.

لعل أكثر ما يعلق في الذهن، خلال السير في شوارع دمشق من طريق المطار إلى دوار البيطرة باتجاه باب شرقي، وصولاً إلى العباسيين ومنه إلى أوتوستراد حمص، ظاهرتان مفهومتان ومتناقضتان في آن واحد. الأولى، ظاهرة الإصبع الوسطى. والثانية، "اللامبالاة"، كشعور جمعي طبيعي في "سوريا الأسد". ذلك أن المبالاة تعني الاعتقال والقصف والتجويع، وختاماً: التهجير. هكذا تعاطى معنا مئات المارّة في الطريق، بالكثير من الإهمال. كأننا في عالم موازٍ، لا يعنيهم ولا يهمهم. مرّت الحافلات بجانبهم، كأنّها لم تمر، وكأنه لم تحصل أيّ عملية تهجير. أمّا "الوسطى"، فكان طريقنا حافلاً بها، فرادى وجماعات، مدنيين موالين، عناصر حواجز، أشخاص تعوّدوا التعاطي مع قضايا الآخرين بوسطاهم، ومع قضاياهم الخاصة بإشارة النصر، حتى ولو كانت بطعم الهزيمة ودمار البلد.

وقتٌ قصير مضى قبل بلوغنا "طلوع التنايا"، بوابة دمشق من جهة القلمون، لتبدأ أعطال الحافلات بتنغيص المسير. وكل عطلٍ ينتج عنه تباعد المسافات بين الحافلات، ما يزيد من احتمالية الخطر، رغم وجود سيارة مرافقة من المخابرات مع كل حافلة. ومع غروب الشمس، كنا قد وصلنا إلى القلمون، وأُعلِمنا بتعطّل الحافلة الأخيرة التي يستقلّها أبو عمر وعائلته فقط، مع كميّة كبيرة من المتاع. وصلَنا الخبر عبر غرفة عمليات مصغّرة ومؤقتة، تتضمن أجهزة لاسلكي "جي بي" تربط منسقي الحافلات، إضافة إلى التواصل عبر تطبيق "الواتس". الغرفة هي الأهم في الرحلة. فأي خلل أو طارئ يمكن تلافيه عبرها، لتنسيق وقوف بقية الحافلات أو متابعة مسيرها. إذ كانت التنبيهات، قبل بدء الرحلة، تأتينا من أصحاب الخبرة، بألّا تُترك أي حافلة وحيدة في حال تعطّلها، وعندما تعطّلت حافلة "أبو عمر" أوقفنا حافلتنا لدقائق، ثم تحركنا ببطء شديد، وطلبنا من الآخرين ذلك.

في لحظة إيقاف أي حافلة، يهرع إليها عناصر المخابرات، يطلبون من الركاب عدم النزول، خصوصاً من المقاتلين حملَة السلاح، ويلحّون على سائق الحافلة لإكمال طريقه. فلكل حافلة سيارة مرافقة، وفي حال تعطّل أي حافلة فإن مسؤولية إصلاح المشكلة تقع على عاتق العناصر أنفسهم. وبالتالي، حينما تعطّلت حافلة "أبو عمر" ونزلنا، طلبوا العودة إلى الحافلة وإكمال المسير. كان في إمكاننا تأخير ذلك، ولو لبضع دقائق، في ظل الأجواء المتوترة والخوف من أي حركة غير محسوبة، لا سيما أننا في مناطق النظام. وبالفعل، نقل عناصر المرافقة، المتاع، من حافلة أبو عمر، إلى حافلة جديدة التحقت بنا بعد قليل.

وصلنا إلى حمص. السائق متعب، يدخّن كل عشر دقائق سيجارة. نأكل التمر ونشرب رشفة ماء. فتناوُل أي كميّة إضافية من الطعام أو الشراب، قد يسبّب مأزقاً في حال عدم توقف الحافلة. تجاوزنا "عاصمة الثورة" بعدما طوّقها النظام بالنار والحصار، وسرنا في اتجاه طرطوس عبر الأوتوستراد. كان الليل قد أسدل ستائره، أنوارٌ خافتة تشع من البيوت والحارات المترامية على جانبيّ الطريق. ساعتان وندخل نفق الخطر، بلغناه، فاستنفرنا.

أي خطأ مهما بدا صغيراً، قد تكون كلفته باهظة. أي تيه في الطريق قد يؤدي إلى حصارٍ جديد، داخل باص صغير، محاطاً بثأرٍ بلا قعر من طرفٍ واحد. عجّلنا المسير، وزادت تواصلاتنا عبر كل الوسائل المتاحة، ومن خلال أكثر من شخص. في مثل هذه اللحظات، يبلغ التوتر أقصى درجاته. دخلنا قرى كنا نأتيها "مصطافين"، وخرجنا منها نستطلع الاتجاهات الأربع، الأيادي على الزناد، العيون تُحدّق كالقناصين في مراصدهم. فجأة، لمحنا من بعيد شبّاناً يبدو أنهم يتجهّزون لاستقبال الحافلات بالحجارة، فركض عناصر من الأمن باتجاههم لردعهم. نجونا بمحض الصدفة من "زعبرةٍ" متوقّعة. تخيّل أن مَن كان يقتلك ويجوّعك، بات يحميك ويحرسك، مؤقتاً، من ناسه وقاعدته الشعبية.. هل كنا شعباً واحداً؟

قرى الساحل جميلة، لكنّ عبورها في حافلات التهجير، وفي ظل جوٍ من القلق والخوف، يجبرك على تجاهل الجمال للتركيز على مخاطر الطريق ومشقاته. ثلاث ساعات أو أكثر في قرى الساحل، صعوداً إلى سلسلة جبال اللاذقية، وهبوطاً إلى سهل الغاب. أربعة فصول مناخية خلال رحلة التهجير، أشدّها برداً في ذروة سلسلة الجبال، حيث لا أثر للحياة البشرية إلّا في بعض حواجز النظام على الطريق. اقتربنا من المناطق المحرّرة.

الطريق الوعرة بين الجبل والسهل، المدى المفتوح، أضواء القرى المتناثرة كنجوم الليل، الركّاب المتخمون بالتعب افترشوا مقاعدهم كبواً ونوماً، ثم صحواً عند كل حفرةٍ أو مطّب. أبو فواز اليقظ رغم الشيخوخة، وأم فواز الحالمة بلقاء ابنها. تلك كانت آخر الصور في رحلة التهجير، قبل بلوغ الكيلومترات الأخيرة بين مناطق النظام والجيش الحرّ.

بين السقيلبية وقلعة المضيق، غفوت قليلاً، ثم فجأة فتحت عينيّ على عناصر الحاجز الأخير للنظام الأخير. للوهلة الأولى، لم أستوعب الفاصل السياسي والجغرافي والتاريخي بين حاجز النظام وحاجز "الجيش الحر"، عند النقطة صفر بقلعة المضيق. وفي وقت قليل، أدركت ما لم أعقِله منذ شهر. هجّرنا وقضي الأمر، دخلنا الواقع الجديد، المستقبل المجهول، مع جهجهة الصبح الأولى في الشمال السوري. هنا، ورغم جولات الموت، ما زالت عجلة الحياة تدور بكفاءة عالية، لا تهتم كثيراً لمراهقات الفصائل وطعمِ الهزائم ومشاغبات النظام. هنا الحياة قائمة، حتى في الخيم التي نُقلنا إليها، مروراً بقرى ريفي حماه وإدلب، والتي ما فتئ خيالي يحاول – خلال سنوات الحصار – استذكارها. حقولٌ واسعة من أشجار الزيتون والفستق الحلبيّ والجوز والرمان، وأهالٍ طيّبون يقاومون اليأس ما استطاعوا، يحاولون النجاة من تجربتنا المرّة بقليلٍ من السلاح وكثيرٍ من الدعاء والأمل. كم أتمنّى لهم النجاة حقّاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها