الإثنين 2019/05/20

آخر تحديث: 15:32 (بيروت)

قلعة المضيق.. ميناء المهجّرين

الإثنين 2019/05/20
قلعة المضيق.. ميناء المهجّرين
increase حجم الخط decrease
لكلّ منا، نحن معشر أبناء وبنات، آدم قصّة مع كل مكان نتعثّر به في طريقنا بين المهد واللحد. ولكلٍ منا، نحن أبناء وبنات الثورة السورية قصّة، مع كل مدينة، بلدة، قرية، زقاق، حيث هتفنا للمرة الأولى، فذُهلنا، وسمعنا الرصاصة التي استهدفتنا، فقُتلنا، ثمّ طردنا منها في حافلات التهجير، فاستودعنا مَن استودعنا، وبلا خاطرٍ غادرنا تلك البلاد، عبر طرق عديدة، منها إلى القبر، أو إلى الأسر، أو إلى الهجر والتهجير. وهذه قصتنا نحن مهجّري الحصار إلى الشمال السوري، مع قرية سورية صغيرة ووادعة، في الريف الحموي، ودّعت جغرافيا الثورة لتشيّع إلى مسلخ الأبد قبل أيام قليلة.

جغرافيا مفخّخة
أيار 2018. تتهدّى بنا حافلات التهجير، بعدما قطعنا ساحل طرطوس، وأدركنا سلسلة جبال اللاذقية، وبين أحراشها شفّ خيط الشفق في الأفق البعيد، ليطلّ سهلٌ مترامي الأبعاد، تكاد العيون تعجز أن تحاصره بين جفونها. 
من أعلى قمّة السلسلة، المطيّفة باعتبارها أيضاً "جبال العلويين"، ينكشف سهل الغاب انكشافاً جغرافياً، سياسياً ودينياً أيضاً، كونه الخاصرة الرخوة "لسوريا المفيدة"، والجبهة الأولى والأقرب إلى قلب "الدولة العميقة".

الغاب خط التماس الحساس في المنطقة الوسطى بسوريا، وصلة الوصل والفصل معاً. بين أرض واحدة، وواقعين مختلفين تماماً، لغة مشتركة لكن لكلٍ من ناطقيها، أبجديّته ومقاصده وصدى صوته. 

كان الغاب جسراً معلّقا بين حقيقتين، الغرب محسوباً على نظام الأسد وجيشه ومخابراته، الذين ابتلعوا شبابه، وأبقوا قراهم فقيرة مسحوقة لغاية في نفس حافظ الأسد، كشفتها مجازر حماه وما تلاها.. والشرق محسوباً على الثورة السورية، لكن بلا جيش ولا مخابرات، اللهم سوى جنود بسطاء من أبنائها الفقراء، فلاحي الحقول الفسيحة بريف حماه وإدلب، عمّال المباني في بيروت، روّاد التظاهرات السلمية على دراجاتهم النارية، ثم حمَلة البنادق في المشروع "الجهادي" الذي هضمهم ولفظهم.

أمتار قليلة تفصل الحافلة عن بوابة الغاب الشرقيّ، على طريق السقيلبية - قلعة المضيق. تستمر الرحلة في جو رتابةٍ مقلق، كان النَفَس فيها مكلفاً جداً، بين لحظاتٍ يتهدّم فيها ركام النعاس فوق عيوننا، فلا نقوى على النهوض واليقظة، وأخرى نعيش فيها مخاضاً عسيراً، ليقين جديد، يوشك أن يولد في القلب مع الفجر الطالع. أحقاً بلغنا الريف الحموي، بعدما أغلقنا أبواب دمشق، قبل ساعات، في القافلة الأخيرة لمهجري جنوب دمشق؟ أحقاً أُعلنت نهاية عملية تهجيرٍ قسريّ هندست دمشق وريفها، بما يناسب الذوق الأسدي الحديث، على طراز "الأسد أو لا أحد"، مدشّنة عصر "باسيليا" و"ماروتا"؟

والآن أصبحنا هنا، مع كل شهيقٍ، نبتلع الأوكسجين المتأرجح بين رئتين، سلحب جنوباً وجسر الشغور شمالاً، حتى نوشك أن ننساه، مخافة أن نزفره في البلاد الجديدة، فنصحو على الهزيمة أو تصحو علينا.

بعد غفوة عابرة في حقل ألغام دينيّ بين أربع طوائف، علوية ومرشدية ومسيحية وسنيّة، لعشرات القرى السورية، بدأ الركّاب بالاستيقاظ وهم يتمايلون كجنود مكدّسين في سيارة "زيل" عسكرية"، بسبب حُفر الطريق والحواجز البرميلية والمتاريس، على آخر نقطة تفتيش لمملكة الإرهاب، وعبر المرايا ودّعنا "سوريا الأسد"، والعدو من خلفنا "أصغر مما هو في الحقيقة" على غير العادة. الحاجز يبعد والعساكر يصغرون، تضيع معالمهم مع الوقت، ولا يضيع أثرهم "أثر الضباع لا يزول"، كيف لا؟ وقد عمّروا في هذا المعبر طيلة سنوات، وخبروا صفقات التهجير والتهريب جميعها. 

توشك سفننا أن ترسو في ميناء المهجّرين الشهير، أول مكان خارج الحصار في حياة المحاصرين، وأول مكان أكبر من الحصار، بالرغم من كونه مضروباً هو الآخر بحصاره الخاص. وعلى وقع صدى "هنا قلعة المضيق" ندلف بأنفسنا خارج الحافلة، كمرساة تسقط في قعر البحر لتستريح، نغمد سيوفنا ونرفع الحقائب على الرماح راية بيضاء أو جواز سفر.

الزيارة الأولى والأخيرة 
20 دقيقة كان يبعد سريري في بيت أهلي، عن أرض المطاحن التي افترشناها بعد سفر طويل. 20 دقيقة فقط، لكنّ زيارتي الأولى إلى "قلعة المضيق" جاءت بعد مليون شهيد وثورة ثقيلة ومثقلة، في ظرفٍ استثنائي، كاستثناء موقعها الجيوبولوتيكي أيضاً، باعتبارها تشغل مضيقاً يقع بين التل حيث بنيت قلعتها الأثرية التي تسيطر عليها قوات النظام، وجبل شحشبو الذي يقابله.

مصادفة كانت بلدة قلعة المضيق خلال سنيّ الثورة، قناة عبورٍ تُماثل المضائق المائية الاستراتيجية، كهرمز مثلاً شديد الأهمية في معركة حصار إيران الآن، فهي لكونها همزة وصل بين مناطق النظام والمحرر تحوّلت إلى معبر لتهريب كل شيء، السلاح والذخائر، البشر والمطلوبين للمخابرات، العملاء والخونة، وحتى الدواعش. فصارت بلا منازع، مرفأ لعشرات آلاف السوريين، وصلوها من ريف دمشق، حمص وريفها، درعا والقنيطرة، وحتى من مناطق سيطرة النظام، دمشق واللاذقية وحماه، فارّين من الخدمة العسكرية أو هاربين من ملاحقة الأمن أو عابرين منها نحو تركيا وأوروبا.

وبينما كانت تفصيلاً صغيراً في جغرافيا "مزرعة الأسد"، صارت مضافة رحبة بعد الثورة، يقصدها الآلاف يومياً باعتبارها سوقاً حرّة لبضائع ومواد غذائية تنتقل منها إلى مناطق النظام وبالعكس، وجسراً لمرور قافلات الإغاثة الإنسانية للأمم المتحدة، كما كانت وجهة في الآونة الأخيرة لهيئة تحرير الشام في سياق حربها على فصائل الجيش الحر وحركة أحرار الشام، والتي أسفرت عن تجويف البلدة من مقاتليها وسلب سلاحهم.

ورغم ما بدا اعتيادياً في دورة حياتها، وفارقاً في ظرفنا كمهجّرين حين وصلناها باكراً، تستيقظ القلعة فجراً قبل أن تغفو إنارة شوارعها، تكنس التعب عن الطرق من تحت أقدام نسوة الحقول، كل بضعة أمتار مجموعة صغيرة من فلّاحات المساكب، العاملات في حقول القطن والبطيخ والقمح، ينتظرن جرارات تكدّسهن لنقلهن إلى مواقع العمل. وبين جرارٍ وآخر، تلوح سيارات المؤسسات الإغاثية وهي تهرع إلى موقعنا في المطاحن، لتجلي المهجّرين إلى مخيمات في الريف الشمالي لإدلب.

بعد استراحة قصيرة لم تتح لنا تلبية دعوات ضيافة كثيرة على العالم الافتراضي في بيوت القلعة. غادرنا البلدة، وفي البال رغبة في زيارتها قريباً، لكنّها لا تلبث أن تتحوّل إلى مجرّد ذكرى، تنهال عليها طائرات روسية وسورية بغاراتها وبراميلها، بعد عامٍ من لحظة الأمان الأولى.

أستحضر الآن صوراً محفورة في الذهن، تفاصيل لا تمحى رغم انطفاءة القلب أثناء مغادرة القلعة. شوارع البلدة المرصودة ناريّاً من قلعتها الأثرية، تُحرث بالرصاص، كأنه انتقام التاريخ من الحاضر، غدر الأوابد والأبد، غزو بربريّ مهووس بعقدة الجبال تجاه السهول المنبسطة، يتجلّى ذئاباً تهبط مع الليل من السلسلة نحو سهلها. مسَّنا هذا الكابوس أثناء الرحلة. 

لم تكن الفلاحة والخضرة قاسماً مشتركاً على ما يبدو، لا الماء ولا التراب، بل كانت للأرض لعنة يعرفها أبناء الطين، المصليّين براجمات الصواريخ من بريديج والسقيلبيّة، حتّى مرشّات المياه صارت أسلحة ثقيلة تمشّط البساتين والحواكير من حرش "الكركات" حتى "فريكة" في سهل الغاب.

أيار 2019. سقطت القلعة بعد مقاومة ليوم كامل. العدو من أمام ثوارها، والبحر من خلفهم في هيئة لحى مسلّحة، أسدلت الستارة على المسرح. لا تصفيق حاراً، إلّا لكتّاب التقارير بالصف الأخير، في الضيع المجاورة، يراقبون من الأعالي، كيف حوّلوا مكاننا الأول، فاتحة الحياة، إلى منطلق لدباباتهم نحو قيامة جديدة، وكيف صار أهلها مهجّرين هم أيضاً بعدما كانوا ملاذ المهجّرين.
وداعاً... وعلى أمل اللقاء القريب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها