الأربعاء 2024/03/27

آخر تحديث: 11:18 (بيروت)

شهادة أمام التاريخ: سعادة الشامي يكشف أخبث انقلاب مالي

الأربعاء 2024/03/27
شهادة أمام التاريخ: سعادة الشامي يكشف أخبث انقلاب مالي
سيناريو أسود ينتظر اللبنانيين في المستقبل (الأرشيف)
increase حجم الخط decrease
خلال الأسابيع الماضية، شهدت البلاد تطوّرات شديدة الخطورة على مستوى الأزمة المصرفيّة والماليّة، بعدما تمكّن اللوبي المصرفي من دفع الطبقة السياسيّة للانقلاب –مجددًا- على مسار إعادة هيكلة المصارف. فكانت النتيجة ضرب المشروع في مهده بدل درسه داخل الحكومة. وبالتوازي، أطلقت لجنة الإدارة والعدل لجنةً فرعيّة مخصّصة للبحث في المشروع البديل، الرامي إلى ربط الخسائر المصرفيّة بالمرافق والأموال العامّة، وفقًا للمشروع المطروح من قبل جمعيّة المصارف منذ العام 2020.

في هذه اللحظة بالذات، أصبح هناك حاجة ماسّة لتوثيق تفاصيل هذا الانقلاب الخطير، الذي سيدفع ثمنه اللبنانيون لعقود من الزمن، ما لم تتم فرملة حفلة الجنون التي تقودها الآن النخبتان السياسيّة والماليّة في البلاد.

شهادة للتاريخ
بعد انتهاء جلسة مجلس الوزراء ما قبل الأخيرة، أشار بعض الوزراء والإعلاميين إلى "مداخلة مؤثّرة" لنائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، فنّد خلالها –وبالتفصيل- المسار الكامل لمشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي، منذ لحظة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وصولًا إلى لحظة الانقلاب على المشروع والتبرّؤ منه.

ومنذ ذلك الوقت، عملنا على تبويب النقاط الرئيسيّة لهذه المطالعة المطوّلة، من خلال جمع ملاحظات عدّة مصادر كانت موجودة داخل الجلسة. مداخلة الشامي داخل مجلس الوزراء، تمثّل شهادة يجب تسجيلها أمام التاريخ، لتعرف الأجيال المقبلة كيف تم اقتياد البلاد نحو سيناريوهات البؤس المزمن، ولتدرك نوعيّة المصالح التي قادتنا بهذا الاتجاه.

تجدر الإشارة إلى أنّنا وقبل نشر هذا النص، قمنا بالاتصال بنائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، الذي لم يشأ التعليق على الموضوع. 

عودة إلى نص الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد
تشير جميع المصادر التي حضرت الجلسة إلى أنّ الشامي اختار توقيت مداخلته -خلال تلك الجلسة- بعدما تم طرح موضوع مسودّة مرسوم مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، وبعدما قرّر المجلس "سحبه لإعطاء المزيد من الوقت للوزراء لدراسته". عندها، طلب الشامي الحديث، مشيرًا إلى أنّه "يملك الكثير من الكلام ليقوله بهذا الخصوص"، طالبًا انتباه جميع الوزراء الحاضرين قبل بدء الحديث، وهكذا كان.

عاد الشامي بشهادته إلى لحظة تكليفه برئاسة وفد التفاوض مع صندوق النقد الدولي، الذي ضمّ كلاً من وزير الماليّة ووزير الاقتصاد وحاكم مصرف لبنان، والذي تمكّن من إنجاز الاتفاق على مستوى الموظفين في 7 نيسان 2022. يومها، لم يتمكّن لبنان من الوصول إلى اتفاق نهائي، بسبب عدم القيام بالإجراءات المسبقة (أي الشروط الإصلاحيّة التي يطلبها الصندوق). غير أنّ الشامي ذكّر بتبنّي الرؤساء الثلاثة -في ذلك الوقت- لنص الاتفاق، من خلال تصاريح مكتوبة، "ولو لم يحصل هذا التبني لما كان هذا الاتفاق في الأساس". وعلى هذا الأساس، تم إقرار مذكّرة التفاهم في مجلس الوزراء في 20 نيسان 2022.

في شهادته أمام الحكومة، اختار الشامي العودة إلى تلك اللحظة لاستعراض التلاعب والانقلاب على الخطط المتفق عليها. إذ بمجرّد إقرار الاتفاق –يروي الشامي- بدأ الجميع بالتنصّل منه، حتى من الذين شاركوا في المفاوضات، مما سمح لبعض وسائل الإعلام بالتهجّم على الخطّة ووصفها بـ"خطّة سعادة الشامي".

يرد الشامي أمام الحكومة "هذا شرفٌ لن أدعيه وتهمة لن أنكرها. ولكني لم أفاوض وحيدًا، وإن كانت مشاركة الأعضاء الآخرين ضعيفة أو غير موجودة. لم يحضر حاكم مصرف لبنان بشخصه أكثر الاجتماعات، ولكنه أوفد ممثلين عنه، من نواب الحاكم الذين ما زالوا موجودين".

وبمعزل عن تبرّؤ الجميع من الاتفاق مع الصندوق، يصرّ الشامي حتّى اللحظة على تبيان أهميّته. فتوقيع الاتفاق النهائي هو حاجة للبنان، للتمكن من الحصول على المساعدات التي يحتاجها. ومن دون الاتفاق، حسب الشامي، لن تأتي أي مساعدة، وستكون عملية الإصلاح أشد تعقيدًا وإيلامًا ووجعًا على اللبنانيين. ولكن بغض النظر عن وجود صندوق النقد الدولي من عدمه، على لبنان القيام بالإصلاحات ذاتها، ومنها إعادة هيكلة المصارف وإعادة تنظيمها، نظرًا لحاجتنا إلى قطاع مصرفي لتمويل الاقتصاد، ولنعيد أموال المودعين إلى أقصى حد ممكن. ومن هنا، يمكن للاتفاق مع صندوق النقد أن يحسّن الشفافيّة، من خلال مراقبة تنفيذ الإصلاحات، ومراقبة صرف الأموال، في بلدٍ يُحكى فيه الكثير عن الفساد.

مسار إقرار قانون إعادة الهيكلة
بعد الحديث عن الاتفاق مع صندوق النقد، بدأ الشامي بتفنيد حكاية قانون إعادة الهيكلة من ألفها إلى يائها. تبدأ القصّة بعدما أعد مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف في العام 2022 مشروعي قانونين: إعادة هيكلة المصارف وإعادة الانتظام المالي. ثم تم التقدّم بها إلى مجلس النواب في أيلول من العام 2022.

عقدت لجنة المال والموازنة "عدداً قليلاً من الاجتماعات"، من دون الدخول في التفاصيل، ثم توقفت هذه الاجتماعات في نيسان من العام الماضي. ويستدرك الشامي، "كان من الممكن أن نتوصل إلى نتيجة لو توالت هذه الاجتماعات، بعد الأخذ بالاعتبار ملاحظات واقتراحات النواب، ولكن لم يحصل هذا الشيء".

لم يقلها سعادة الشامي، لكن المسؤول عن هذه المراوحة كان رئيس اللجنة إبراهيم كنعان، الذي قرّر وقف دراسة مشروع القانون للعودة إلى أرقام رياض سلامة، الذي بدأ في الفترة نفسها –ويا للمصادفة!- بعمليّات تزوير ضخمة في ميزانيّة المصرف المركزي (فندت "المدن" المراسلات التي كشفت الأدوار التي قام بها كل من إبراهيم كنعان ورياض سلامة يومها).

ظلّت حالة المراوحة قائمة حتّى جلسة مجلس النوّاب المنعقدة في 14 كانون الأوّل 2023، حين طلب رئيس مجلس النوّاب من الحكومة دمج مشاريع القوانين الإصلاحيّة في قانون واحد، بسبب الترابط الوثيق في ما بينها، وهكذا كان. أرسل مصرف لبنان المسودّة إلى الشامي في 6 شباط، فأبدى الشامي بعض الملاحظات عليها. بعدها، تلقى الشامي النسخة النهائيّة من مصرف لبنان، وأحالها إلى مجلس الوزراء.

ويستذكر الشامي: "ما إن سُرّب مشروع القانون إلى الاعلام، حتى قامت الدنيا ولم تقعد". ثم أصدر بيانًا بعد أن ورود عدة اتصالات تتعلق ببعض الأمور التقنية، للقول بأن القانون جاء نتيجة جهد مشترك، ولكنه صيغ من ألفه إلى يائه من قبل مصرف لبنان. غير أن الحملة الإعلاميّة ضد المشروع انتقلت إلى اتهام الشامي بالتنصّل من المشروع، وإلقاء اللوم على مصرف لبنان، وذلك تبعًا لمصادر أتى بعضها من داخل الحكومة نفسها.

تنصّل مصرف لبنان والوزراء
ثم يذكّر الشامي بأنّه طالب عدة مرات بأن يحضر مصرف لبنان إلى جلسة مجلس الوزراء، لشرح تفاصيل القانون وحيثياته ولكن هذا لم يحصل، "لأسباب أجهلها وإن كان بإمكاني التكهن بها". ولكن على أي حال، اعتبر الشامي أنّه من غير المقبول ولا من ضمن الأصول أن ينبري أعضاء في الحكومة بالتهجم على المشروع، قبل مناقشته على طاولة مجلس الوزراء. ثم استغرب كيف يدلي عدد من الوزراء بدلوهم من على المنابر والشاشات، وكأنه لا علاقة لهم بالخطّة الإصلاحيّة أو بالحكومة، في حين أنه كان من الأجدى أن يبادروا إلى دراسة ومناقشة المشروع داخل مجلس الوزراء.

حتّى هذه النقطة من المداخلة، وقبل أن يفنّد الملاحظات على مشروع القانون، كان من الواضح أن الشامي أراد التصويب على النيّة السيئة التي انطلقت منها الحملة ضد مشروع القانون. وهذا ما يشير إلى أنّ المطلوب من هذه الحملة هو الإطاحة بفكرة إعادة الهيكلة، وفقًا لحسابات ومصالح اللوبي المصرفي، لا تصويب مضمون المسودّة أو تقويمه على طاولة مجلس الوزراء.

فمصرف لبنان الذي أعد المسودّة أساسًا بناءً على مندرجات التفاهم مع صندوق النقد والخطّة الحكوميّة، انكفأ عن مناقشة أرقام أو تفاصيل المسودّة بعد طرحها في مجلس الوزراء (ما لم يقله الشامي، هو أنّ حسابات سياسيّة فعلت فعلها ليبتعد الحاكم بالإنابة عن الملف). أمّا الوزراء الذين كان يفترض أن يناقشوا المسودّة –ويصوّبوا مضمونها- داخل الحكومة، ففضلوا المزايدة الشعبويّة وتحميل الشامي وحده مسؤوليّة المسودّة. وبالعودة إلى مراسلات المعترضين على مشروع القانون، نفهم سريعًا أن المطلوب كان الحؤول دون أي عمليّة إعادة هيكلة فعليّة للمصارف، مقابل تبنّي طرح جمعية المصارف القائم على تحويل خسائرها إلى ديون على الدولة.

الرد على الملاحظات الشعبويّة
بعد سرد حكاية التبرّؤ من المسودّة، ومن قبلها التفاهم مع صندوق النقد، انتقل الشامي إلى تفنيد الحجج التي حاولت الانقلاب على المبادئ الأساسيّة لمسار إعادة هيكلة المصارف، مقابل المطالبة بتحميل الدولة –أي الشعب اللبناني- الخسائر المصرفيّة. وفي بداية هذا الجزء من حديثه، استغرب الشامي بعض الملاحظات التي لا تستند إلى أسس عمليّة ولا منطقيّة، وخصوصًا تلك التي جاءت ممن كان موجوداً في المفاوضات حول برنامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي (كحالة الوزير أمين سلام)، والذي "لم يساهم بشكل جدي، ولكن فجأة تفتقت بعض العبقريات فولدت بالونات فارغة".

وأمام مجلس الوزراء، لخّص الشامي الأرقام كالتالي: هناك فجوة في القطاع المصرفي تقدر بأكثر من سبعين مليار دولار. إذ أنّ هناك ودائع بالدولار بقيمة 90 ملياراً، أما الأصول فهي لا تتجاوز 15 ملياراً. الأرقام لا تكذب، ويتابع "دعوني أخبركم بأن مصرف لبنان لا يطبع الدولار، ولن يمن علينا أحد من الخارج بأي قرش إذا لم نقم بما يجب القيام به من إصلاحات".

ثم صوّب الشامي على المشروع البديل عن إعادة الهيكلة، الذي تطرحه جمعيّة المصارف، سائلًا: هل يعتقد أحد منكم أن للدولة إمكانية اليوم بردم هذه الفجوة الكبيرة في القطاع المصرفي، والمقدرة بحوالى 70 مليار دولار، ونحن نصارع كل يوم من على هذه الطاولة لنجد تمويلاً لأدوية لناس يعانون من مرض السرطان والأمراض المستعصية الأخرى أو تمويل المستشفيات، أو لدفع مبلغ ما للمعلمين حتى يعتنوا بتعليم الأجيال القادمة، أو للعاملين في القطاع العام والمتقاعدين، وقد وصلوا إلى درجة الفقر المدقع، أو لإصلاح البنى التحتية المتهالكة؟

أمّا عن طرح ربط الخسائر المصرفيّة باستثمار أصول الدولة، وفقًا لمشروع جمعيّة المصارف، فطلب الشامي مقاربة الموضوع بموضوعية. إذ أن استثمار هذه الأصول سيأخذ الكثير من الوقت، نظرًا للحاجة الكبيرة للاستثمار في هذه الأصول، حتى تصبح منتجة. ثم سأل: هل تتصورون كم سيأخذ ذلك من الوقت في بلد مثل لبنان، حتى نجد الشركات المستعدة للاستثمار في هذه الأصول، ولإصدار القوانين المتعلقة بهذا الموضوع؟ هل يجب علينا أن نبقى مكتوفي الأيدي حتى ذلك الوقت؟ أليس من الأجدى أن نبدأ عملية الإصلاح في أسرع وقت ممكن حتى لا يخسر المودعون المزيد من ودائعهم؟

أما المصدر الأخير الذي يمكّن الدولة من تحمّل الخسائر المصرفية، حسب مطالعة الشامي، فهو فرض ضرائب على اللبنانيين جميعًا، ومنهم المودعون، وذلك لاسترداد أموالهم. وهنا سأل الشامي: هل يقبل الشعب اللبناني بذلك، وقد واجهت الحكومة أعنف الحملات ضد زيادة بعض الرسوم، بعد أن تدنت قيمتها إلى مستويات غير مقبولة؟  لذلك، ووفقًا للشامي، إن مطالبة الدولة -من قبل المصارف- بتأمين ما يقارب سبعين مليار دولار هو طرح غير منطقي، وغير قابل للتنفيذ، وما هو إلا وسيلة لحرف الأنظار عن المسؤوليات، وليقولوا للمودعين بأن الودائع هي مع الدولة، فاذهبوا وحصّلوها من الدولة.

أبطال الانقلاب الأسود
بعيدًا عن مضمون شهادة سعادة الشامي، على اللبنانيين أن يعرفوا ما ينتظرهم بعد مضي البلاد في الخيار الذي تطرحه جمعية المصارف. ما لم يقله الشامي، ربما تحسّبًا لموقعه الرسمي، هو التالي: بمجرّد السير بمشروع جمعيّة المصارف، لن تعرف البلاد اتفاقًا مع صندوق النقد، ولا مع الدائنين الأجانب، ولن تعود إلى أسواق المال العالميّة.

وعند السير بهذا المشروع، لن تُعالج خسائر القطاع المالي، بل ستُربط بالدين السيادي، ما سيُثقل ماليّة الدولة بإلتزامات لا طاقة لها بها. في نتيجة الأمر، لن تُعود الودائع، ولن تستعيد الماليّة العامّة توازنها. وفي بيئة من هذا النوع، لن نجتذب أي مستثمر رصين لتطوير المرافق العامّة، بل ستُباع الأصول بالثمن البخس للسماسرة المحليين في محاصصات موبوءة.

لكل هذه الأسباب، من الضروري توثيق الانقلاب الكامل الذي جرى على التفاهم مع صندوق النقد ومشروع إعادة هيكلة المصارف، والذي سيفضي إلى هذا السيناريو الأسود في المستقبل. فأبطال هذا الانقلاب الخبيث، سيتحمّلون مسؤوليّة هذه الجريمة أمام التاريخ والأجيال المقبلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها