الأربعاء 2023/06/07

آخر تحديث: 16:10 (بيروت)

حلم "البريكس": الإطاحة بالدولار غير واقعي بالمدى المنظور

الأربعاء 2023/06/07
حلم "البريكس": الإطاحة بالدولار غير واقعي بالمدى المنظور
سبع دول مهتمّة بالانضمام إلى "البريكس"، أبرزها السعوديّة وإيران (Getty)
increase حجم الخط decrease
أجرت مجموعة البريكس هذا الأسبوع محادثاتها التمهيديّة على المستوى الوزاري، بمشاركة سبع دول مهتمّة بالانضمام إلى المجموعة، أبرزها المملكة العربيّة السعوديّة وإيران.

ومن المفترض أن تمهّد هذه المحاثات لقمّة المجوعة الأساسيّة في الأسبوع الأخير من شهر آب المقبل، والتي ستكون على جدول أعمالها فكرة إطلاق عملة دوليّة موحّدة، خاصّة بالمجموعة، لتحدّي هيمة الدولار الأميركي في الأسواق العالميّة. ومن المعلوم أنّ هذا المسعى يأتي كجزء من اتجاه العديد من أقطاب المجموعة لتقليص الاعتماد على الدولار، عبر أفكار متعددة، ومنها عقد اتفاقات تجاريّة ثنائيّة بالاعتماد على العملات المحليّة.

عوامل تدغدغ حلم الانقلاب على الدولار
لا يوجد حاجة للاستطراد في شرح الأسباب التي أيقظت الحديث عن هدف الإطاحة بهيمنة الدولار على الأسواق العالميّة، والتي باتت مرادفًا لهيمنة الولايات المتحدة السياسيّة على الاقتصاد العالميّة. فروسيا خبرت جيّدًا معنى تجميد جميع احتياطاتها الدولاريّة في لحظة واحدة، عند بدء غزوها لأوكرانيا، بالإضافة إلى الخسائر التي نتجت عن اضطرارها لبيع النفط بحسومات كبيرة، نتيجة العقوبات التي فُرضت عليها في أسواق النفط.

أمّا الصين، فباتت تتلمّس الأثر الموجع للقيود الأميركيّة المفروضة عليها، في إطار الحرب التجاريّة ضدّها، وخصوصًا في أسواق شركات التكنولوجيا. وكذلك الأمر بالنسبة لإيران، التي تسعى لدخول مجموعة البريكس اليوم، لتلمّس فرص إنشاء نظام مالي دولي موازٍ، لا يمكن إخضاعه لعقوبات الولايات المتحدة.

وبعض الدول التي لم تخضع لأي عقوبات أميركيّة بعد، والمعروفة بصلاتها الاقتصاديّة الوثيقة بالغرب، كالمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة مثلًا، باتت تتحيّن الفرصة لتنويع علاقاتها الاقتصاديّة الدوليّة بعيدًا عن الولايات المتحدة، بعدما تنامى تعارض مصالحها مع الأميركيين في أسواق النفط، ما عزّز مصلحتها بتخفيف الاعتماد على الولايات المتحدة الأميركيّة. وتراهن مجموعة بريكس على دخول هذه الدول النفطيّة بالتحديد إليها، لتعزيز فرص نجاح أي نظام مالي موازٍ أو عملة دوليّة جديدة، بدعم من تداولات الدول المنتجة للنفط.

أمّا الأسواق الناشئة الأخرى، مثل البرازيل والأرجنتين والجزائر وغيرها، فباتت ترى اليوم أثر هيمنة الدولار على الأسواق العالميّة، مع كل زيادة في معدلات الفوائد الأميركيّة، أو مع كل إجراء يتخذه الاحتياطي الفيدرالي الأميركيّ، بناءً على متغيّرات السوق الأميركيّة المحليّة.

مصاعب وعراقيل: الهدف بعيد المنال
قد تبدو الفكرة جذّابة لعدد كبير من الأطراف الدوليّة المؤثّرة، وهي أساسًا فكرة تكرّر طرحها خلال العقود الماضية للأسباب نفسها: تقليص الهيمنة السياسيّة الأميركيّة المُستمدة من السيطرة النقديّة والماليّة، وتقليص أثر تقلّبات السياسة النقديّة الأميركيّة.

وخلال الأشهر الماضية، تكرّرت الاتفاقيّات الثنائيّة التي تظهر موجة مستجدة من التفاؤل، بإمكانيّة تحقيق هذا الهدف. مع الإشارة إلى أنّ أرقام صندوق النقد تؤكّد أن نسبة الاحتياطات الدولاريّة قد انخفضت بالفعل إلى نحو 58.36% مؤخرًا، مقارنة بنحو 71% عام 1999. وهذا ما يشير إلى أنّ المصارف المركزي بدأت بالفعل بتنويع احتياطاتها وعملات تداولاتها، من دون أن يعني ذلك إزاحة الدولار عن عرشة كعملة مهيمنة في الأسواق الدوليّة.

بصراحة أكثر، يمكن القول أنّ الوصول إلى مرحلة تحدّي سيطرة الدولار على الأسواق، ما زالت هدفًا بعيد المنال. فإمكانيّة التداول بالدولار كعملة عالميّة، لم تنتج فقط عن قوّة الولايات المتحدة السياسيّة والعسكريّة، بل نتجت أيضًا عن عوامل موجودة في نظامها المالي، وأبرزها وجود نظام مالي مفتوح وحرّ وواسع، يسمح للمصارف المركزيّة والمصارف التجاريّة الأجنبيّة بالاحتفاظ باحتياطات وازنة فيه، وباستخدام هذه الاحتياطات بحريّة مطلقة في أسواق المال والقطع من دون قيود. أما العامل الثاني، فهو استعداد الولايات المتحدة، وبصفتها صاحبة أقوى اقتصاد في العالم، للاحتفاظ بعجوزات دائمة في حسابها الجاري. وهذا العامل، هو ما يسمح فعليًا بتصدير الدولار الأميركي إلى السوق العالمي.

عامل القوّة الأولى، هو ما يمنع اليوم الصين أو روسيا أو المملكة العربيّة السعوديّة أو الغالبيّة الساحقة من الأسواق الناشئة من طرح عملاتها كعملات عالميّة منافسة للدولار، رغم امتلاك بعض هذه الدول –كالصين مثلًا- حصّة وازنة من تداولات الأسواق العالميّة. فالصين على سبيل المثال، لا تملك نظاماً مالياً حرّاً ومفتوحاً، يسمح بتلقّي الإيداعات وتحريكها بالعملة المحليّة من دون قيود، كما لا تسمح الصين بتعويم عملتها بشكل شفّاف في أسواق القطع العالميّة.

العامل الثاني، هو ما يمنع الكثير من الدول الصناعيّة الأخرى، ومنها دول الاتحاد الأوروبي مثلًا، من منافسة الدولار في موقعه في الأسواق الدوليّة. فهذه الدول تتطلّع –لخدمة اقتصاداتها المحليّة- إلى الاحتفاظ بفوائض في ميزان مدفوعاتها وميزانها التجاري وحسابها الجاري، ما يراكم لديها احتياطات نقديّة بالعملات الأجنبيّة، بدل أن "تصدّر" عملتها إلى الخارج كما تفعل الولايات المتحدة.

باختصار، عوامل السوق الحر والمفتوح، وعجوزات الحساب الجاري، مع الاقتصاد القوي والنظام المالي المتين والواسع، والسيولة الكبيرة التي يتمتّع بها الدولار، بالإضافة إلى الثقة الدوليّة التي يستفيد منها، كلها أسباب منعت منافسة الدولار من قبل أي عملة أخرى تطمح لتوسيع حصّتها من السوق العالميّة. مع الإشارة إلى أنّ العملة الأقرب للعب هذا الدور كانت اليورو، إلا أنّها لم تلق الرواج المطلوب خارج سوق الاتحاد الأوروبي، وتحديدًا بسبب استخدام اليورو من قبل تكتّل صناعي كبير، يراكم الفوائض النقديّة الأجنبيّة بدل أن يصدّر عملته.

إشكاليّات العملة المشتركة وأسواق السلع
البديل عن اعتماد عملة محليّة لمنافسة الدولار، هو الاعتماد على أسواق السلع لمراكمة الاحتياطات وإجراء التبادلات الماليّة. ومن هذه السلع مثلًا الذهب أو الفضّة أو البلاتين، أو حتّى بعض السلع القابلة للاستهلاك مثل النفط والغاز والقمح وغيرها.

المشكلة في السلع القابلة للاستهلاك، هي أنّ أسعارها ترتفع مع تحسّن الأوضاع الاقتصاديّة، أي حين تراكم دول العالم الفوائض والاحتياطات. فيما تنخفض أسعار السلع عند فترات الركود والضغوط الاقتصاديّة، أي حين تضطرّ الدول إلى استعمال فوائضها واحتياطاتها. بهذا المعنى، تؤدّي هذه السلع عكس المطلوب تمامًا من الاحتياطات، إذ تراكم الخسائر عند الاحتفاظ بها على المدى الطويل، بدل أن تحتفظ بقيمتها. أمّا الاعتماد على المعادن الثمينة، فيربط قيمة التداولات مجددًا بالدولار الأميركي، المعتمد لتسعيرها، ما يجعل الذهب مجرّد مرآة للتسعير والتداول بالعملة الخضراء من حيث القيمة. إلا أنّ هذه الآليّة، ستحمّل الدول في الوقت نفسه مخاطر تقلّب أسعار الذهب، وحسب متغيّرات عديدة أبرزها قرارات الاحتياطي الفيدرالي نفسه.

الرهان الأخير القائم اليوم، هو الاعتماد على عملة مشتركة بين الدول، كحال العملة التي ستناقش إطلاقها مجوعة البريكس. مشكلة هذه الفكرة، تكمن في حاجتها إلى مصرف مركزي مشترك، واحتياطات ماليّة مشتركة، وهو ما سيعطي الصين –صاحبة أقوى اقتصاد داخل المجموعة- التأثير الأكبر على السياسة النقديّة التي ستقود هذه العملة. وحتّى اللحظة، من الواضح أنّ كل من جنوب أفريقيا والهند –الأعضاء في المجموعة- تتحسّسان من تطوّر كهذا، نظرًا لوجود تعارض واضح بين مصالحهما الاقتصاديّة والمصالح الصينيّة.

وحتّى في حال تخطّي هذه المشكلة، والاتفاق على سياسة نقديّة مشتركة، ستضطر دول المجموعة إلى معالجة إشكاليّة امتلاكها مجتمعة لفوائض في ميزان مدفوعاتها، ما يراكم لديها الاحتياطات بالعملة الأجنبيّة، بدل أن يصدّر عملتها الجديدة للتداول في الأسواق. وفي هذه الحالة، ستعود دول المجموعة إلى الحاجة إلى الدولار، كعملة احتياط، وإن تخطّت الحاجة إليه كعملة تداول. أمّا دور الدولار كوسيط لتحديد القيمة، فمن الصعب تخطيه، في ظل هيمنة المؤسسات الأميركيّة على أسواق المال والنقد الدوليّة.

في خلاصة الأمر، من الواضح أنّ العالم سيتّجه نحو تنوّع نقدي أكبر، مقابل هيمنة أقل للدولار. وهذا لن ينتج عن العوامل والتطلعات السياسيّة فحسب، بل أيضًا عن عوامل اقتصاديّة أخرى مثل رغبة المستثمرين بتقليص تعرّض احتياطاتهم لمخاطر التضخّم، الذي يسجّل اليوم معدلات مرتفعة في أسواق المال الغربيّة، ما سيدفعهم إلى الاستثمار في أصول غير نقديّة بالضرورة. لكن في المقابل، هذا لن يعني تهشيم الدولار بين ليلة وضحاها، كما يعتقد البعض. وحتّى الصين نفسها، صاحبة أكبر احتياطات دولاريّة في العالم، لا تمتلك مصلحة في ذلك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها