الخميس 2023/12/07

آخر تحديث: 00:00 (بيروت)

مذكرة ربط النزاع: المصارف تعلن الحرب على الشعب اللبناني

الخميس 2023/12/07
مذكرة ربط النزاع: المصارف تعلن الحرب على الشعب اللبناني
تسعى المصارف لشطب الخسائر بكبسة زر، عبر تحويلها إلى ديون عامّة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

إنها مذكرة ربط نزاع، موجّهة من 11 مصرفًا لبنانيًا إلى "جانب وزارة الماليّة المحترمة" (راجع "المدن"). ولمن لا يعرف، مذكّرة ربط النزاع هي خطوة قانونيّة تسبق رفع الخلاف إلى الجهات القضائيّة المختصّة. هي الخطوة التي يفترض التي تستدرج الإدارة المختصّة، وفي هذه الحالة وزارة الماليّة، لاتخاذ موقف إزاء طلب المستدعي، أي المصارف التي عدّدت أسماءها في مقدّمة العريضة، قبل التوجّه إلى المحاكم في حال عدم الاستجابة.

إذًا، لمن لم يفهم أبعاد الخطوة: هي المرّة الأولى التي تتخذ فيها المصارف الوضعيّة الهجوميّة، في وجه الدولة بما تمثّله من مال وحق عام. هي لحظة حسّاسة للغاية، قلّ الذين فهموا أبعادها.

هاتوا 67.9 مليار دولار أيها اللبنانيون
المطلوب في مذكرّة ربط النزاع، التي اقتصر مضمونها الركيك على 11 صفحة، بسيط للغاية: تحصيل 67.9 مليار دولار من الدولة اللبنانيّة لمصلحة مصرف لبنان، أي ما يقارب 3.23 مرّات حجم الاقتصاد اللبناني بأمّه وأبيه. أو لنبسّطها: هو ما يمكن أن نحصّله إذا استعبدنا الشعب اللبناني -حرفيًا- لـ3.23 سنوات، وأودعنا الدولة -لتسدد المبلغ- كل ما يجنيه الاقتصاد من رواتب الموظفين وأرباح الشركات. أو إذا ما وضعنا الخيال العلمي جانبًا، هذا المبلغ هو كل ما يمكن أن تحصّله الدولة اللبنانيّة خلال أربع عقود من الزمن، حسب تقديرات إيرادات موازنة العام الحالي، من دون أن تنفق سنتًا واحد على أي أمر آخر. على الدولة أن تسدد المبلغ الآن إذًا، من دون نقاش، "تحت طائلة مراجعة القضاء الإداري" لإلزامها بذلك.

لكن مهلًا. من الناحية القانونيّة، ما شأن المصارف لتتخذ هذه الوضعيّة القتاليّة، في وجه الدولة، لإلزامها بتسديد مبلغ لمصرف لبنان؟ المسألة بسيطة، لقد قررت المصارف بوصفها "دائنة لمصرف لبنان"، أن تقوم "بإسم مصرف لبنان"، وأن تقيم "لحساب هذا الأخير، جميع الدعاوى المتعلّقة به، وأن تدعي مباشرة عنه". بهذا المعنى، قرّرت المصارف الـ11 أن تقاضي الدولة، بإسم إحدى مؤسسات الدولة ولحسابها، بل وبإسم مصرف الدولة، لمطالبة الدولة بتسديد ديونها لصالح هذه المؤسسة، لكون الأخيرة مدينة للمصارف.

إذًا، أيها اللبنانيون، هاتوا من ضرائبكم ومالكم العام –وأصول دولتكم كما طلبت جمعيّة المصارف- هذا المبلغ الضخم، لتُعاد رسملة مصرف لبنان، ولنسدد خسائر القطاع المصرفي ونعيد أموال المودعين، بكبسة زر. هذا لأن المصارف قررت –بإسم مصرف لبنان ولحسابه وبالنيابة عنه- أنّ الدولة مدينة بهذا المبلغ، وأنّ ثمّة موجباً أخلاقياً يفرض علينا كشعب –وكأجيال مقبلة لم تولد بعد- أن ننقذ القطاع بهذا الشكل. 

لكن مهلًا مجددًا: هل الدولة، أي نحن الشعب اللبناني، ندين بهذا المبلغ لمصرف لبنان، ومن خلفه المصارف؟ هنا بيت القصيد، وأهم ما في النقاش. هنا، نحن أمام بلطجة صريحة لا تعرف الخجل، بما يصل إلى حد التشبيح على ثروة مجتمع كامل، بعيدًا عن شكليّات نزع ربط النزاع والمواد القانونيّة. هو تزوير، من إرث رياض سلامة، بما أفضى إلى فتح المجال أمام هذه المناورات.

المصارف واستعمال المزوّر في ميزانيّات مصرف لبنان
من أين جاءت المصارف برقم الـ67.9 مليار دولار، التي ادّعت أن الدولة مدينة بها لمصرف لبنان؟ ما هو هذا الحق الذي إلتفتت إليه المصارف اليوم، لتطالب به "بإسم مصرف لبنان ولحسابه وبالنيابة عنه"، كما يطالب الوالد بحق إبنه القاصر؟ هذا الرقم، هو في الواقع حصيلة رقمين.

الرقم الأوّل، هو 16.62 مليار دولار. في شهر شباط الماضي، وقبل ستّة أشهر من انتهاء ولايته، برز فجأة بند جديد في ميزانيّة مصرف لبنان، وعلى جهة الموجودات من الميزانيّة. بين ليلة وضحاها، أصبحت الدولة اللبنانيّة مدينة للمصرف لبنان بنحو 16.62 مليار دولار. هكذا، خلق رياض سلامة دين جديد من العدم. البحث في حواشي الميزانيّة (وهي بالأحرى شبه ميزانيّة لا تليق بمؤسسة فرديّة)، لا يفيد بأكثر من الإشارة إلى أنّ المسألة مرتبطة بديون قديمة جرى كشفها مع تغيير سعر الصرف الرسمي (؟).

لاحقًا، ستبدأ خيوط التزوير الصريح بالانكشاف. لقد قرّر رياض سلامة يومها العودة بالزمن إلى الوراء 16 سنة. ثم قرّر احتساب جميع الدولارات التي باعها للدولة، بموجب عمليّات قطع طبيعيّة، كديون على الدولة. لتبسيط المسألة: يشبه هذا الإجراء المحاسبي الخرافي تلقيك اتصالًا من صرّاف الحي، يطالبك فيه برد الدولارات التي باعك إياها في الماضي السحيق على أساس سعر الصرف القديم. المسألة كانت بهذه الغرابة، من دون أي مبالغة.

طبعًا، كان مصرف لبنان قد تقاضى في الفترة نفسها –خلال الـ16 سنة- كميّة أكبر من الدولارات على حساب الدولة، عبر حصوله على مردود بيع سندات اليوروبوند بالعملة الصعبة، وتسديده القيمة الموازية للدولة بالليرة. وهكذا، بات المصرف المركزي، الذي يفترض أن يكون مصرف الدولة، يطالب الدولة –أي المال العام، أي نحن- بالدولارات التي اشترتها في الأزمنة الغابرة، ويتناسى ما حصّله من دولارات في المقابل من الدولة. المسألة مجددًا غريبة، لكن ما معنى الحديث عن المنطق والعدالة، حين يرتبط الأمر بإجراءات رياض سلامة؟

في جميع الحالات، مثّلت إضافة هذا الدين تزويرًا صريحًا في الميزانيّات، إذ بتنا عام 2023 أمام ميزانيّة جديدة، تتعارض في مضمونها مع الميزانيّات السابقة نفسها الصادرة عن مصرف لبنان. ولتبرير إضافة هذا الدين، استند سلامة إلى "تفاهم شفهي" عقده مع وزارة الماليّة قبل 16 سنة، من دون أن يبرز مستندًا واحدًا يشرّع تراكم هذه الديون بعيدًا عن الميزانيّات المعلنة. مع الإشارة إلى أنّ قانون النقد والتسليف ينص على آليّة محكمة جدًا لمراكمة أي دين جديد على الدولة اللبنانيّة، بما يفرض تفادي إقراض المصرف المركزي للدولة أولًا، وتنظيم القرض بعقد خاص في الظروف الشديدة الاستثنائيّة، وموافقة المجلس النيابي على القرض.

باختصار، هذا هو التزوير الفاقع الذي تستند إليه المصارف الـ11 في مذكرة ربط النزاع، التي تطالب الدولة بتسديد الجزء الأوّل من المبلغ الضخم. الهدف الأوّل من التزوير الذي قام به سلامة، ومن استناد المصارف إلى هذا التزوير، هو رمي جزء من خسائر القطاع المصرف على كاهل الدولة اللبنانيّة، عبر خلق دين جديد يستحق لحساب مصرف لبنان. وإذا كان التزوير هو الحلقة الأولى من هذا المسلسل، فمذكرة ربط النزاع هي الحلقة الثانية.

تحميل الدولة كلفة التحايل
كما أشرنا سابقًا، لا يمثّل مبلغ الـ16.62 مليار دولار سوى الجزء الأوّل، من المبلغ الإجمالي الذي تطالب به المصارف اليوم، أي الـ67.9 مليار دولار. بقيّة المبلغ، تمثّل حكاية تزوير أخرى لا تقل فداحة وغرابة.

في بداية شهر حزيران، أي قبل شهرين من انتهاء ولايته، أضاف سلامة بندًا جديدًا في ميزانيّة المصرف المركزي، قيّد بموجبه جميع خسائر المصرف –التي تراكمت على مدى عقدين من الزمن- كديون على الدولة اللبنانيّة. وهذا البند، هو تراكم ليوازي حدود الـ51.3 مليار دولار أميركي، والذي تطالب به جمعيّة المصارف.

لقيد هذا المبلغ الضخم كدين على الدولة، ربط سلامة البند بالمادّة 113 من قانون النقد والتسليف، التي تفرض على الدولة معالجة العجز السنوي في ميزانيّة مصرف لبنان. بطبيعة الحال، مثّل هذا الإجراء –الذي تستند إليه مذكرة ربط النزاع أيضًا- حيلة موصوفة على القانون، إذ أن المادّة المذكورة تتناول صافي الخسائر أو الأرباح السنويّة العامّة، التي يتم التصريح عنها بشكل طبيعي كل سنة في الميزانيّة المعلنة، والتي تتجاوز الاحتياط العام الموجود في المصرف. إلا أنّ هذا المادّة لا تشمل ما لم يخطر على بال المشرّع يومها: أن تتراكم خسائر على مدى أكثر من 20 سنة، من دون التصريح عنها في الميزانيّات، بل وبوجود أرباح معلنة في الميزانيّة المصرّح عنها!

بصورة أوضح، إن الخسائر التي تفرض المادّة 113 التعامل معها هي تلك التي يقدّمها المصرف المركزي في ميزانيّته سنويًا إلى وزارة الماليّة، والتي يتم التصريح عنها في الجريدة الرسميّة، والتي يمكن التعامل معها بشكل دوري عند الحاجة. أمّا تراكم خسائر توازي أكثر من 2.5 مرّات حجم الاقتصاد المحلّي، ونتيجة عمل احتيالي منظّم، فهو خارج عن نطاق ومفهوم الخسائر المحددة في هذه المادّة (والتي تتحدّث أساسًا عن نتائج كل سنة على حدة).

الهدف تفادي فتح الدفاتر
بكل بساطة، ثمّة خسائر تراكمت على مدى عقدين، وهي في الجزء الأكبر منها نتاج تداولات مصرف لبنان مع المصارف التجاريّة، في حقبات شهدت الأرباح الخياليّة الناتجة عن الهندسات الماليّة، لحساب المساهمين وكبار المودعين، وعمليّات تهريب الأموال بالاستفادة من تثبيت سعر الصرف، ناهيك عن شتّى أشكال الاحتيال المرتبطة بالدعم وتسديد القروض التجاريّة بسعر الصرف الرسمي. وفي المقابل، هناك من لا يريد فتح الدفاتر، لتبيان طريقة تراكم هذه الخسائر، في تعاملات مصرف لبنان مع المصارف التجاريّة. هنا بالتحديد، تأتي مذكّرة ربط النزاع لشطب الخسائر بكبسة زر، عبر تحويلها إلى ديون عامّة، تترتّب على الدولة اللبنانيّة، أي على دافعي الضرائب.

الملفت في النظر، هو أنّ مذكرة ربط النزاع تستند إلى تقارير التدقيق المحاسبي والجنائي، لتصوّب على آليّات الإفصاح المالي المعتمدة في مصرف لبنان في السنوات السابقة. وبهذا الشكل، تصوّب المصارف على معايير إعداد الميزانيّات في مصرف لبنان، ثم تستند إلى أوقح عمليّات التزوير التي طرأت على الميزانيّات، قبل فترة قصيرة من انتهاء ولاية سلامة.

هنا يصبح السؤال المنطقي: على أي أساس تطالب المصارف بقيد هذا الدين الضخم على الشعب اللبناني، قبل إعادة النظر في ميزانيّة مصرف لبنان، التي تستند إليها؟ وعلى أي أساس تطلب المصارف تحميل خسائر القطاع بأسره للشعب اللبناني، قبل تبيان المستفيدين من العمليّات الاحتياليّة التي جرت في مصرف لبنان، طالما أن المصارف نفسها تصوّب على آليّات الإفصاح المالي ومعايير الشفافيّة؟ وإذا كانت المصارف تصرّ على تفادي هذا التدقيق، ألا يستوجب ذلك الشك بأنّ جزءاً من المستفيدين من تراكم هذه الخسائر، كانوا من كبار النافذين في القطاع المصرفي؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها