الأربعاء 2023/10/18

آخر تحديث: 12:19 (بيروت)

مصر أمام حرب غزة: الأمن القومي أهم من الاقتصاد

الأربعاء 2023/10/18
مصر أمام حرب غزة: الأمن القومي أهم من الاقتصاد
ابتزاز مصر اقتصادياً لإقناعها بتهجير أبناء غزّة نحو سيناء (Getty)
increase حجم الخط decrease

لدى مصر ما يكفي من أسباب لتخشى من سيناريو تهجير أهل غزة إلى شبه جزيرة سيناء: القطاع المكتظ والفقير، والرغبة الإسرائيليّة الدفينة والتاريخيّة بالتخلّص منه، وسيناء الممتدّة بمساحاتها الواسعة وكثافتها السكّانيّة المنخفضة.

لم تخفِ إسرائيل منذ عقود هذا الحلم، سواء بالتصريحات الخجولة على هوامش الحروب والمعارك، أو بالمفاوضات الماكرة بعيدًا عن الإعلام. ولم تخفِ مصر يومًا تحسّسها من هذا الطرح، لأسباب عديدة، ومنها الخوف من تصدير أزمة إسرائيل مع الفلسطينيين إلى الداخل المصري، وتصفية أبرز التكتلات السكانيّة العربيّة على أرض فلسطين التاريخيّة، وتحويل الجيش المصري في سيناء إلى حارس لحدود إسرائيل في وجه الشتات الفلسطيني. بصورة أوضح، تعاملت مصر مع المقترح بوصفه خطرًا على أمنها القومي، وليس على القضيّة الفلسطينيّة فقط.

مصر تتمسّك بموقفها رغم الضغوط الاقتصاديّة
لم يكن مفاجئًا، والحال هذه، أن تتوجّس مصر مجددًا الآن من فكرة تهجير أهالي غزّة باتجاهها، بعد أن باشرت إسرائيل أعنف هجمة ممكنة على القطاع، وأن يصبح هذا التوجّس النقطة المركزيّة المحرّكة للموقف المصري تجاه الحرب الراهنة. وفيما لم تكن مصر تعوز أصلًا أسباب إضافيّة لتخشى هذا السيناريو، جاءت بعض التصريحات الإسرائيليّة والضغوط الأميركيّة لتدل على وجود نوايا مبيّتة، للوصول إلى هذه النتيجة، تحت عناوين "الممرّات الآمنة" الإنسانيّة.

إلا أنّ عودة هذا الهاجس اليوم، يأتي بالتوازي مع ضغوط اقتصاديّة ونقديّة على مصر، ما دفع البعض للاعتقاد بقدرة الولايات المتحدة وحلفائها على تليين أو ربما ثني هذا الموقف المصري. بل وذهبت بعض التحليلات إلى الحديث عن إمكانيّة مقايضة ديون مصر وحاجاتها التمويليّة، بمواقف أو خطوات معيّنة في ما يخص حرب غزّة، وتحديدًا في الجانب المتعلّق بفتح معبر رفح أمام لاجئي قطاع غزّة.

حتّى هذه اللحظة، مازالت مصر متمسكة بموقفها التقليدي كخط أحمر، كما حرصت على التشديد على هذا الموقف علنًا لرفع السقف، وإلزام جميع الأطراف به قبل الدخول في أي تفاوض جدّي. وتمكنت مصر في الوقت نفسه من الاستحصال على مواقف عربيّة إقليميّة داعمة لهذا التوجّه، من قبل بعض الأطراف المؤثّرة مثل السعوديّة وقطر، لمواجهة المطالب الأميركيّة الصريحة، التي كانت تنادي بفتح الحدود لخروج من يريد من المدنيين من قطاع غزّة. وبهذا الشكل تمكّنت مصر -حتّى هذه اللحظة على الأقل- من سحب فكرة التهجير الجماعي للغزاويين عن طاولة النقاشات.

هكذا، تمسّكت مصر لغاية اللحظة بحسابات أمنها القومي، وبالدور التاريخي الذي لعبته على هامش حروب إسرائيل في قطاع غزّة، بمعزل عن الحسابات الاقتصاديّة، وبغض النظر عن قدرة بعض الأطراف، وتحديدًا الولايات المتحدة، على استخدام الملف الاقتصادي كعامل ضغط على مصر. أمّا الأهم، فهو أن النظام المصري ألزم نفسه بهذا الموقف شعبيًا وسياسيًا عبر الإعلان عنه بشكل متكرّر، للحؤول دون إقحام هذا المطلب مجددًا في أي مساومة قد تطال مستقبل القطاع والنازحين فيه.

صندوق النقد وأدوات الضغط الأميركيّة
تتعدّد أدوات الضغط الأميركيّة على مصر في الملفّات الاقتصاديّة، والتي يعتبرها البعض أبوابًا يمكن أن تحاول من خلالها الولايات المتحدة الضغط على مصر في ملف حرب قطاع غزّة في المستقبل، ولو لتحقيق أهداف أخرى أكثر تواضعًا من إقناع مصر بتهجير أبناء غزّة باتجاه سيناء.

لا يمكن الحديث عن الضغط الأميركي على مصر، على المستوى المالي، بمعزل عن برنامج التمويل المتفق عليه بين مصر وصندوق النقد الدولي. فكما هو معلوم، تمكنت مصر في كانون الأوّل الماضي من الحصول على موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، للاستفادة من برنامج تمويلي بقيمة 3 مليارات دولار. إلا أنّ الحصول على هذا المبلغ لن يتم إلا بموجب تسع دفعات على امتداد 46 شهرًا، وبعد ثماني مراجعات دوريّة، للتأكّد من امتثال مصر للشروط الإصلاحيّة المفروضة من قبل الصندوق.

حتّى هذه اللحظة، لم يُجرِ الصندوق أي مراجعة أو تقييم لتقدّم مصر في تنفيذ شروط البرنامج، إذ قرّر الصندوق تأجيل المراجعة الأولى ودمجها بالمراجعة الثانية، على أن يتم إجراء المراجعتين معًا في وقت لاحق هذه السنة. ومن المفترض أن تحدد نتائج المراجعتين إمكانيّة المضي قدمًا ببرنامج التمويل، وسط حديث عن عدم رضا الصندوق عن تقدّم مصر في تنفيذ شروط الاتفاق مع الصندوق، وخصوصًا بالنسبة للإصلاحات غير الشعبيّة التي أجّلت الحكومة تنفيذها إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، مثل تخفيض سعر صرف العملة المحليّة.

هنا، يدخل النفوذ الأميركي على الخط. فرغم أن المراجعات المقبلة تتسم بطابع تقني في الشكل، تمتلك الولايات المتحدة النفوذ الأكبر داخل إدارات صندوق النقد الدولي، وهو ما يتيح لها تليين أو تشديد هذه المراجعات، التي ستحدد في النهاية إمكانيّة المضي قدمًا بتسديد دفعات البرنامج التمويلي لمصر.

مع الإشارة إلى أنّ أهميّة استكمال برنامج التمويل بالنسبة إلى مصر لا تنحصر في الحصول على المليارات الثلاثة، بل في شهادة الثقة التي ستمنحها المراجعات المقبلة، إذا انتهت بنتائج إيجابيّة تفضي إلى صرف دفعات القرض التالية. وفي هذا السياق، تراهن مصر على شهادة الثقة هذه للحصول على أضعاف هذه القيمة المحدودة، من خلال استقطاب الاستثمارات المباشرة والودائع والاقتراض من الأسواق العالميّة، بالتوازي مع استكمال مسار التفاهم مع صندوق النقد الدولي.

أمّا الأهم، فهو أنّ النفوذ الأميركي داخل صندوق النقد يمكن أن يلعب دورًا مباشرًا أكبر، بالنسبة إلى المحادثات التي تجريها مصر حاليًا مع صندوق النقد الدولي، لزيادة قيمة برنامج التمويل من ثلاثة مليارات دولار إلى خمسة مليارات دولار. فهذا القرار، سيحتاج إلى موافقة المجلس التنفيذي في الصندوق، وهو ما يمكن أنّ يخضع مجددًا إلى حسابات سياسيّة. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ دراسة هذا الطلب، والبت به لاحقًا، غير ممكن قبل استكمال مصر للمراجعتين المقبلتين خلال العام الحالي، لتتم دراسة طلب زيادة التمويل في ضوء التقدّم في تنفيذ الإصلاحات.

أوراق قوّة اقتصاديّة بيد مصر
على المستوى الاقتصادي أيضًا، وفي أسواق الطاقة بالذات، تمتلك مصر أوراق ضغط مضادّة يمكن أن تستخدمها في وجه إسرائيل والدول الغربيّة معًا، إذا تطوّرت الأمور لدرجة حصول كباش دبلوماسي وسياسي بما يخص حرب غزّة، وفي حال تم استخدام الملفّات الاقتصاديّة الداخليّة للضغط على النظام المصري. أي بمعنى آخر، لدى مصر نقاط قوّة لمواجهة أي مسعى لتطويقها ماليًا من أجل الحصول على مكاسب سياسيّة.

فعلى سبيل المثال، تُعتبر مصر حاليًا النافذة الوحيدة التي تصدّر من خلالها إسرائيل غازها إلى الخارج. فقبل اندلاع حرب غزّة، التي أوقفت العمل بحقول الغاز الإسرائيليّة، اعتمدت إسرائيل على ضخ غازها بالأنابيب إلى محطّتي التسييل في مصر، لتسييل الغاز وشحنه بالبواخر إلى أوروبا. ومن الصعب حاليًا أن تجد إسرائيل بديل سريع عن هذا النموذج، في حال حدوث أي نزاع أو تصعيد مع مصر، بالنظر إلى حاجتها إلى استثمارات ضخمة وفترة زمنيّة طويلة لتشييد خطوط أنابيب جديدة خاصّة بها، أو إنشاء محطات تسييل خاصّة بها.

وبالنسبة إلى أوروبا، يمثّل الغاز الذي يتم تسييله في مصر، والذي يتم استخراجه من الحقول المصريّة والإسرائيليّة معًا، أحد مصادر الطاقة التي تعتمد عليها الدول الأوروبيّة حاليًا، كبديل عن الغاز الروسي الذي شحّت وارداته إلى أوروبا بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. وعلى هذا أساس، ستعطي شحنات الغاز هذه قوّة تفاوضيّة هامّة لمصر، في مواجهة الدول الغربيّة، بما فيها الولايات المتحدة الأميركيّة نفسها، التي تخشى من أثر أي اضطراب جديد في سلاسل توريد مصادر الطاقة على المستوى العالمي.

أمّا نقطة القوّة الأهم بيد مصر حاليًا، فتكمن في تعويلها على الاستثمارات والودائع الخليجيّة بالتحديد، بالتوازي مع تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي، وفي إطار عمليّة خصخصة بعض أصول الدولة والجيش المصريين. ولهذا السبب، من الواضح أنّ مواقف قطر والمملكة العربيّة السعوديّة، الداعمة للموقف المصري بخصوص تهجير أهل غزّة، ستحد من قدرة الدول الغربيّة وإسرائيل على استخدام الاقتصاد كورقة ضغط على مصر، للحصول على تنازلات معينة في الموقف المصري. أمّا القمّة الدوليّة المرتقبة يوم السبت المقبل في القاهرة، فمن المرتقب أن تزيد من حصانة الموقف المصري، وخصوصًا بوجود شبه إجماع عربي على هذا الموقف حاليًا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها