السبت 2023/01/21

آخر تحديث: 15:39 (بيروت)

دروس من فضيحة سلامة: إعادة هيكلة مصرف لبنان ضرورة!

السبت 2023/01/21
دروس من فضيحة سلامة: إعادة هيكلة مصرف لبنان ضرورة!
خالف الحاكم في أدائه الكثير من الضوابط الموجودة أساسًا في القوانين (رويترز)
increase حجم الخط decrease

من المفترض أن تغادر الوفود القضائيّة الأوروبيّة العاصمة بيروت اليوم السبت، بعدما اختتمت يوم أمس مهمّتها القضائيّة في لبنان، وأنجزت استجوابات الشهود المعنيين بملف حاكم مصرف لبنان القضائي. في حصيلة الزيارة، تمكّنت الوفود القضائيّة من انتزاع معلومات بالغة الأهميّة، في ما يخص العمليّات التي قام بها حاكم مصرف لبنان وشقيقه وشركاؤهما داخل النظام المصرفي اللبناني، والتي تكاملت مع عمليّاتهم المصرفيّة والعقاريّة في أوروبا، الهادفة لتبييض الأموال المختلسة من مصرف لبنان. كما تمكّن الوفد من جمع معلومات بالغة الأهميّة عن آليّات اتخاذ القرار في مصرف لبنان، والطريقة التي جرت من خلالها المصادقة على التحويلات والعقود المشبوهة. وفي النتيجة، ستسمح كل هذه المعلومات بتقريب النيابات العامّة الأوروبيّة من اللحظة الحاسمة: لحظة الادعاء رسميًّا على حاكم مصرف لبنان.

لكن وبمعزل عن الاستنتاجات التي كان بالإمكان رسمها في الجانب الجنائي من التحقيقات، ثمّة الكثير من الدروس التي بات يمكن استخلاصها من قضيّة "شركة فوري" التي تورّط فيها الأخوان سلامة وشركاؤهما، في ما يتصل بآليّات العمل الحاليّة القائمة في مصرف لبنان والقطاع المصرفي، والقوانين التي تنظم آليّات العمل هذه. وفي الوقت الراهن، لا يمكن التقليل من أهميّة تدوين وتوثيق هذه الدروس في تاريخ وذاكرة اللبنانيين، طالما أنّ لبنان يتّجه اليوم إلى مرحلة إعادة هيكلة إدارات مصرف لبنان الموعودة، كما نصّت خطّة التعافي المالي.

جديد فضيحة شركة "فوري"

لطالما حفلت يوميّات اللبنانيين بفضائح الفساد التي طالت الغالبيّة الساحقة من الوزارات والمؤسسات العامّة اللبنانيّة، والتي باتت مادّة دسمة لبرامج ومقالات الصحافة الاستقصائيّة في لبنان. لكن في واقع الأمر، ثمّة ما هو مختلف وجديد في حالة "فضيحة شركة فوري"، ومن نواحٍ عديدة.

فنحن لا نتحدّث هنا عن تعهّدات جرى تضخيم أكلافها، لزيادة أرباح مقاول محسوب على طرف سياسي ما، بمناقصات "ملغومة" ومفصّلة على قياس المقاول. كما لا نتحدّث عن تلزيم مشبوه لمرفق عام، بما فوّت على الدولة إيرادات محتملة أو متوقّعة. بل نتحدّث عن عقد وهمي، نصّ على خدمات "وساطة ماليّة" لم يتم تقديمها يومًا لمصلحة الدولة، ولم يكن هناك حاجة لها أصلا، بما أفضى إلى اختلاس صريح ومباشر لعمولات تجاوزت قيمتها الـ 325 مليون دولار، لمصلحة شركة وهميّة غير موجودة إلا على الورق. بهذا المعنى، نحن أمام فضيحة "حوكمة" نادرة، يفترض أن تقرع جرس الإنذار في ما يخص طريقة إدارة المصرف المركزي ومراقبة حساباته.

في الوقت نفسه، نحن نتحدّث عن فضيحة يختلط فيها اختلاس المال العام باستخدام المصارف اللبنانيّة لتبييض الأموال، واستخدام حسابات وأموال المصرف المركزي لإجراء التحويلات المرتبطة بالأموال المختلسة، ولحساب حاكم المصرف المركزي نفسه. وهذا النوع من العمليّات، يطرح مخاطر استثنائيّة لناحية علاقة لبنان بالنظام المالي العالمي، وثقة المؤسسات الدوليّة بالنظام المصرفي المحلّي، ومخاطر الامتثال وتبييض الأموال المرتبطة بالتعامل مع المصارف اللبنانيّة.

الحاكم بأمر المال
كيف كان بإمكان رياض سلامة تمرير هذا النوع من الصفقات الغريبة، والتي قد يحسده على جرأتها سائر السياسيين اللبنانيين، لولا انكشاف الفضيحة؟ ستبدو المسألة أوضح إذا ما عدنا إلى جميع الأدوار التي يلعبها رياض سلامة في الوقت نفسه، بصفته حاكمًا للمصرف المركزي.

فالحاكم هو من يشرف على تنظيم القطاع المصرفي، بما يعطيه صلاحيّات الحل والربط والتأثير على حجم اكتتابات المصارف بسندات الدين العام وشهادات إيداع مصرف لبنان، التي اختلست تحت ستارها شركة فوري "العمولات" المزعومة. وهو في الوقت نفسه رئيس المجلس المركزي لمصرف لبنان، الذي يبت بأي عقود أو التزامات يمكن أن تؤثّر على سياسات مصرف لبنان النقديّة والمصرفيّة، والذي كان من المفترض أن يصدّق على عقد شركة فوري. وهو أيضًا رئيس هيئة التحقيق الخاصّة، التي  تملك صلاحيّة تتبّع عمليّات تبييض الأموال، التي قام بها شقيقه لمصلحته، من خلال المصارف اللبنانيّة.

وفي حال كشفت لجنة الرقابة على المصارف أي من هذه المخالفات، لم يكن من الممكن أن يُحال الملف إلى الهيئة المصرفيّة العليا إلا من خلال الحاكم نفسه. والحاكم نفسه، هو من يرأس الهيئة المصرفيّة العليا، التي تملك صلاحيّة البت بأي مخالفة في حال إحالة المخالفة إلى الهيئة. أما هيئة الأسواق الماليّة، التي كان من المفترض أن تلاحق شركة فوري، كشركة غير مرخّصة تدّعي تقديم خدمات الوساطة الماليّة، فيرأسها حاكم مصرف لبنان أيضًا!

ضرورة تعديل القوانين
باختصار، هي كتلة من الصلاحيّات التي ركّزتها القوانين بشخص واحد، بداية من قانون النقد والتسليف الصادر عام 1963، ومرورًا بقانون تعديل واكمال التشريع المتعلق بالمصارف الصادر عام 1967، وصولًا إلى قانون مكافحة تبييض الأموال الذي أنشأ هيئة التحقيق الخاصّة عام 2001، وقانون الأسواق الماليّة الذي أنشأ هيئة الأسواق الماليّة عام 2011.

ولهذا السبب بالتحديد، من المفترض أن تكون قضيّة "شركة فوري" درسًا لا ينتسى، لجهة النتائج التي يمكن أن تترتّب على تضارب الصلاحيّات وتركّزها في يد حاكم المصرف المركزي في لبنان، أيًا تكن هويّته أو اتجاهاته أو مرجعيّته. كما يفترض أن تكون مناسبة لتذكير المشرّعين بضرورة تعديل القوانين الموجودة، بما يعيد هيكلة المصرف المركزي وإداراته، وبما يكرّس استقلاليّة العديد من الهيئاته الرقابيّة، بالتوازي مع عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. فمن الناحية العمليّة، لا يوجد ما يضمن عدم تكرار نفس نوعيّة المخالفات والفضائح في المستقبل، حتّى بعد معالجة فجوة الميزانيّات القائمة حاليًا، طالما أننا لم نعالج الفجوات القانونيّة التي سمحت بحصول هذه المخالفات.

آليّات الرقابة على حاكميّة المصرف المركزي
أهم الدروس التي يمكن استخلاصها في قضيّة حاكم مصرف لبنان، ترتبط بخطورة تغلغل الفساد وسوء الإدارة إلى زواريب المصرف المركزي. فإساءة الإدارة هنا، لن تؤدّي إلى تبديد أموال عامّة أو توسّع العجز في ميزانيّة الدولة فقط، بل إلى تبديد أموال المودعين وتخريب النظام المالي نفسه، طالما أن من يسيء الأمانة هو خط الدفاع الأخير، الذي يفترض أن يضبط أداء النظام المصرفي. وتخريب النظام المالي، كما أدرك اللبنانيون جيدًا مؤخرًا، سيعني تلقائيًا ضرب العملة المحليّة والاقتصاد الوطني، والوصول إلى مرحلة الانهيار الشامل. مع الإشارة إلى أنّ انهيار النظام المالي الذي نعيشه اليوم، لم ينتج حكمًا من ملف صغير كملف شركة فوري، بل عن نوعيّة الأداء التي قدمته حاكميّة مصرف لبنان طوال العقود الماضية، بالتوازي مع سوء إدارة السلطة التنفيذيّة للماليّة العامّة.

في واقع الأمر، لقد منحت القوانين استقلاليّة كبيرة للمصرف المركزي، لتحييده عن الأهواء والمصالح السياسيّة الظرفيّة، ولضمان سياسات نقديّة ومصرفيّة استراتيجيّة مستقلّة على المدى البعيد (وهذا تحديدًا ما يفسّر طول أمد ولاية الحاكم، التي توازي مدّة ولاية رئيس الجمهوريّة نفسه). ورغم أهميّة هذه الاستقلاليّة، التي يفترض أن نتمسّك بها اليوم بمعزل عن أداء رياض سلامة، لم تمنح القوانين الموجودة ما يكفي من ضوابط رقابيّة على حاكميّة المصرف المركزي، التي ظلّت صلاحيّاتها المطلقة تتخطّى هامش الرقابة الموجود في القوانين.

بالتأكيد، ثمّة من يشير إلى أنّ الحاكم خالف في أدائه الكثير من الضوابط الموجودة أساسًا في القوانين، وخصوصًا قانون النقد والتسليف الذي كان ينص على ضوابط واضحة لعمليّة إقراض الدولة، وعلى صلاحيّات معيّنة للمجلس المركزي. لكن في الوقت نفسه، من المهم الإشارة إلى أنّ القوانين لم تقدّم ما يكفي من هوامش للهيئات الأخرى الموجودة في مصرف لبنان، أو تحت مظلّة الحاكميّة، والتي كان من المفترض أن تلعب دورًا في "دوزنة" أداء الحاكميّة، وهذا بالظبط ما يفترض أن تلحظه عمليّة إعادة هيكلة المصرف المركزي. 

  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها