السبت 2022/01/22

آخر تحديث: 10:57 (بيروت)

حان الوقت لتعديل القوانين وتقليم أظافر حاكم مصرف لبنان

السبت 2022/01/22
حان الوقت لتعديل القوانين وتقليم أظافر حاكم مصرف لبنان
أظهرت الكارثة المالية خطورة الجمع بين كل هذه الصلاحيّات التي يتمتع بها الحاكم (المدن)
increase حجم الخط decrease

مازالت جميع المعالجات المطروحة للخروج من نفق الانهيار المالي تتمحور حول فكرة معالجة الخسائر وتوزيعها، بالإضافة إلى بعض الإجراءات المرتبطة بسعر الصرف، وإعادة هيكلة الدين العام.

في المقابل، لا يبدو أن هناك اهتماماً جدّياً بالإصلاحات البنيويّة المطلوبة، لمعالجة جذور الأزمة والأسباب التي قادت إليها، ومنها تلك التي تتعلّق بهيكليّة وحوكمة مصرف لبنان، وحجم الصلاحيّات الممنوحة للمصرف كمؤسسة أولًا، وتلك المحصورة في شخص حاكم المصرف ثانيًّا. وهذه المسألة لا تتصل اليوم بهويّة الحاكم الحاليّة أو موقفنا منه، بل بتضارب المهام الكثيرة المناطة بهذا الموقع حسب القوانين، وبالصلاحيّات الواسعة وغير المقيّدة الممنوحة له، ما سيمثّل دائمًا إشكاليّة كبرى بمعزل عن شخص الحاكم. وفي واقع الأمر، تشير تطوّرات السنوات السابقة أنّ إشكاليّات الهيكليّة والصلاحيّات مثّلت أبرز الثغرات البنيويّة التي سمحت بتراكم أسباب الأزمة المصرفيّة بصمت، قبل حصول الانهيار عام 2019.

أهم ما في الموضوع، أننا بتنا في لبنان نسلّم بنموذج الحوكمة الموجود حاليًّا في مصرف لبنان، وبنوعيّة الصلاحيّات المحصورة بالمصرف وبالحاكم، رغم أن هذا النموذج غريب عن آليّات عمل الأسواق الماليّة المعاصرة، وخصوصًا من جهة الجمع ما بين مهام التنظيم والتنفيذ والرقابة والمحاسبة، وهي مهام يُفترض أن يتم الفصل في ما بينها لعدم خلق تعارض في أهداف عمل حاكميّة المصرف المركزي. باختصار: من غير المنطقي أن نعطي الجهة التي تدير القطاع المصرفي، مهمّة الرقابة على عملها في إدارة القطاع، ومن ثمّ مهمّة محاسبة المخالفات التي يمكن أن تحصل. وأن نعطي هذه الجهة، في الوقت نفسه، حصانة قانونيّة شبه مطلقة، تمنع أي طرف خارجي من التدخّل والمساءلة.

تراكم صلاحيّات الحاكم عبر السنوات
عند إقرار قانون النقد والتسليف سنة 1963، الذي نصّ على إنشاء المصرف المركزي خلال الحقبة الشهابيّة، لم يكن من المفترض أن يتم حصر كل هذه الصلاحيّات بحاكم مصرف لبنان أو بالمصرف نفسه. لكن سرعان ما أعطت القوانين الأخرى لاحقًا الحاكم والمصرف معًا صلاحيّات إضافيّة أخذت تتراكم عبر السنوات، من دون أي اعتبار لضرورة فصل هذه الصلاحيّات والمهام.

في البداية، امتلك الحاكم صلاحيّة ترؤّس المجلس المركزي لمصرف لبنان، المسؤول عن وضع السياسة النقديّة، بالإضافة إلى مهمّة وضع التعاميم المطلوبة لتنظيم عمل القطاع المصرفي. ثمّ جاء القانون 67/28 سنة 1967 ليعطي الحاكم صلاحيّة ترؤّس الهيئة المصرفيّة العليا، التي امتلكت مهمّة المحاسبة عند حصول مخالفات لقانون النقد والتسليف وتعاميم المصرف المركزي، بالإضافة إلى تحديد العقوبات الواجب اتخاذها. أما الأهم، فهو أنّ الحاكم امتلك وحده صلاحيّة إحالة المخالفات إلى هذه الهيئة، ما ربط إمكانيّة ملاحقة المصارف أو الجهات المخالفة بمشيئة الحاكم بشكل حصري.

سنة 1967 أيضًا، نصّ القانون نفسه على تأسيس لجنة الرقابة على المصارف، التي كان من المفترض أن تمتلك استقلاليّتها المعنويّة والإداريّة لضمان الفصل ما بين مهامها الرقابيّة ومهام الحاكم التنظيميّة. لكنّ آليّات عمل اللجنة سرعان ما أعطت الحاكم صلاحيّة اقتراح عزل أعضاء اللجنة أو تأديبهم على مجلس الوزراء، مع جعل اقتراحاته نافذة خلال مهلة شهر إذا لم تبت الحكومة بهذه الاقتراحات. أما المسألة التي ربطت عمل اللجنة بسلطة الحاكم، فكانت حصر علاقة هذه اللجنة بسائر أجهزة الدولة التنفيذيّة والقضائيّة بالحاكم نفسه، ما عنى إفقاد اللجنة القدرة على المبادرة من دون موافقته. وفي كل الحالات، لم يكن بإمكان اللجنة نفسها أن تحيل ملف أي مصرف إلى الهيئة المصرفيّة العليا للمعاقبة أو المحاسبة، حتّى إذا وجدت مخالفات جسيمة وكبيرة، إلّا إذا قام الحاكم بنفسه بهذه الإحالة. وبذلك، تحوّلت رقابة اللجنة إلى عمل تقريري بحت لا يرقى إلى مستوى المحاسبة أو المعاقبة، إذا لم يقم حاكم المصرف المركزي بالتفاعل مع هذه التقارير بشكل مناسب.

ثم جاء قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب سنة 2015، ليعطي حاكم مصرف لبنان أيضًا صلاحيّة ترؤّس هيئة التحقيق الخاصّة، التي امتلكت وحدها صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة تجاه المراجع القضائيّة، وبشكل استنسابي ووفقًا لتقديرها الخاص. مع الإشارة إلى أن قرارات الهيئة لا تقبل أي شكل من أشكال المراجعة أو الطعن لدى مراجع الدولة الأخرى. وبالإضافة إلى رئاسة وعضويّة الحاكم في هذه الهيئة، ربط القانون تعيين عضو آخر من أعضاء الهيئة باقتراح يصدره الحاكم نفسه، ما يعطيه صوتين من أصل أربع أصوات داخلها، أي نصف الأصوات. وبما أن القانون ينص على إعطاء الحاكم حق التقرير في حال تعادل الأصوات داخل الهيئة، فامتلاك الحاكم نصف الأصوات يعطيه القدرة على اتخاذ القرار دائمًا بمعزل عن نتائج التصويت.

يشرف ويراقب ويقاضي وينظّم وينفّذ!
هكذا، بات حاكم مصرف لبنان ينظّم من خلال صلاحيّة إصدار التعاميم، وينفّذ من خلال إدارته للمصرف المركزي، ويصيغ السياسات النقديّة عبر ترؤّسه للمجلس المركزي. كما بات يُقاضي من خلال الهيئة المصرفيّة العليا، ويراقب ويُشرف من خلال هيمنته على عمل لجنة الرقابة على المصارف، ويحصر في نفسه حق كشف المعلومات المصرفيّة أمام القضاء، من خلال سيطرته على هيئة التحقيق الخاصّة. وفي كل هذه الصلاحيّات، يمتلك الحاكم حصانة منصوص عنها في قانون النقد والتسليف، تمنع عزله إلا في حال وجود عجز صحّي مثبت حسب الأصول، أو عند ارتكابه خطأ فادحاً في إدارة المصرف.

أمّا خطورة الجمع ما بين كل هذه الصلاحيّات، فهو تضارب أهداف هذه المهام التي يقوم بها الحاكم. فالجهة التي تقوم بالمهام التنفيذيّة أو التنظيميّة، لا يمكن أن تقوم بمراقبة أعمالها بشكل موضوعي، من جهة فعاليّة القرارات أو مطابقتها لقانون النقد والتسليف، كما لا يمكن أن تحصر في نفسها القدرة على محاسبة المخالفات. لا بل من المتوقّع أن تلجأ الجهة التي تشرف على العمل التنفيذي، أي حاكميّة مصرف لبنان، إلى إخفاء بعض المخالفات المصرفيّة والتغاضي عنها في العمل الرقابي، أو التغاضي عن محاسبتها بشكل صارم، في حال كانت الحاكميّة مسؤولة عن تسهيل هذه المخالفات بشكل مقصود أو عرضي.

ولعلّ تجربة الأزمة المصرفيّة الأخيرة في لبنان كانت خير دليل على خطورة تضارب المهام هذا، لجهة تورّط حاكم المصرف المركزي في تشجيع المصارف على بعض المجازفات التي أفضت إلى تبديد دولارات المودعين، من قبيل الهندسات الماليّة التي قام مصرف لبنان بإطلاقها بين عامي 2016 و2019. وخلال هذه الفترة، لم يسمح الإطار التنظيمي المتبع لمراقبة عمل المصارف بوجود جهة محايدة وبعيدة عن تأثير حاكم مصرف لبنان، قادرة على التدخّل والتحذير من مآل الأمور قبل انكشاف أزمة السيولة سنة 2019.

التجارب العالميّة الأخرى
لكل هذه الأسباب، قامت الغالبيّة العظمى من الدول التي تشرف على أسواق ماليّة متقدّمة بفصل مهام الرقابة والمحاسبة عن مهام التنظيم والتنفيذ التي تقوم بها المصارف المركزيّة. فعلى سبيل المثال، قامت دول كألمانيا وفرنسا وسويسرا وإنكلترا وغيرها بإنشاء هيئات مختصّة بمراقبة الأسواق الماليّة والمصارف وشركات التأمين وعمليّات القطع، كما أنشأت آليّات خاصّة للمحاسبة بناءً على عمل هذه الهيئات الرقابيّة، فيما تركت للمصارف المركزيّة مهام وضع التعاميم التنظيميّة ومساعدة المؤسسات الماليّة على تطبيق هذه التعاميم. وبذلك، قلّصت هذه الدول رقعة الصلاحيّة الكبيرة التي كانت ممنوحة لمصارفها المركزيّة، من دون أن تؤثّر على استقلاليّة عمل المصارف المركزي.

وهكذا، بات على لبنان أن يواكب هذه التغيّرات العالميّة، عبر العمل على إعادة هيكلة مصرفه المركزي أولًّا، ثم إعادة النظر بأطر الحوكمة المعتمدة داخله، وحجم الصلاحيّة الممنوحة لحاكم المصرف المركزي، بالاستفادة من تجربة السنوات الماضية. فصياغة خطط التعافي المالي، لا تكون بمعالجة الخسائر فقط، بل بتصحيح أسباب الانهيار المالي أيضًا، ومنها طريقة إدارة القطاع المالي لتفادي إعادة إنتاج الأزمة نفسها في المستقبل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها