الثلاثاء 2022/01/11

آخر تحديث: 11:57 (بيروت)

بعثة صندوق النقد إلى لبنان: لا داعي للتفاؤل

الثلاثاء 2022/01/11
بعثة صندوق النقد إلى لبنان: لا داعي للتفاؤل
التفاوض مع صندوق النقد لن يكون نزهة بسيطة (Getty)
increase حجم الخط decrease

في أواخر الأسبوع المقبل، سيكون لبنان على موعد مع استقبال بعثة موسّعة من خبراء صندوق الدولي. ومن المفترض أن تقيّم هذه البعثة ما أعدّته حتّى اللحظة اللجنة الحكوميّة اللبنانيّة من ملفّات، في ضوء محادثاتها التمهيديّة السابقة مع الصندوق. وبعد وضع الملاحظات على مقاربات الجانب اللبناني خلال هذه الزيارة، من المتوقّع أن تقوم بعثة الصندوق بجولة لقاءات رسميّة أخرى في شهر شباط المقبل، لمراجعة تقدّم اللجنة الحكوميّة في معالجة ملاحظات الصندوق. أمّا أكثر ما يطمح إليه الجانب اللبناني من هذه المحادثات، فهو توقيع "تفاهم مبدئي" أو "اتفاق إطار" بحلول نهاية شباط، على أن ينص هذا التفاهم المبدئي على إمكانيّة التوصّل إلى اتفاق نهائي بعد قيام الحكومة بمجموعة من الخطوات، وبعد إجراء جلسات تفاوض إضافيّة على ملفّات محدّدة.

ومع ذلك، لا يوجد ما يدعو للتفاؤل بإمكانيّة التوصّل إلى إنجاز اتفاق جدّي ونهائي قبل الانتخابات النيابيّة، ودخول الحكومة في مرحلة تصريف الأعمال، كما طَمح في البداية رئيس الحكومة. فحتّى اللحظة، من الواضح أن ثمّة ألغاماً عديدة ستكمن في محادثات الوفد الحكومي مع بعثة الصندوق خلال الزيارة المقبلة، قبل إنجاز التفاهم المبدئي. وحتّى إذا تمّ التوصّل إلى التفاهم المبدئي بحلول نهاية شهر شباط، فلا يوجد ما يبشّر بإمكانيّة قيام الحكومة قريبًا بالخطوات التي سيطلبها صندوق النقد من أجل التوصّل إلى التفاهم النهائي.  

التدقيق الشامل في أرقام مصرف لبنان
لم يطلب الصندوق في أي مرحلة من المراحل التدقيقَ الجنائي، كشرط من شروط الموافقة على برنامج قرض للبنان، لكونه لا يعتبر نفسه معنيًّأ بالجانب المتعلّق بالملاحقات القانونيّة التي يفضي إليها هذا النوع من المسارات. لكنّ من الناحية الماليّة البحتة، ما زال الصندوق يصرّ على ربط أي مقاربة لموضوع الخسائر بالتدقيق الشامل والمفصّل في ميزانيّات المصرف المركزي، ومن قبل جهة ذات مصداقيّة، بما يسمح بفهم الواقع المالي الحالي للمصرف كما هو. ولذلك، من المستبعد أن يوافق الصندوق على أي خطة تكتفي بالارتكاز على الأرقام التي يقدّمها حاكم مصرف لبنان للحكومة، طالما أن هذه الأرقام لم تخضع لتدقيق علمي وموضوعي. مع الإشارة إلى أن عدم اهتمام الصندوق بالمحاسبة الجنائيّة أو الملاحقة القانونيّة، لا ينفي تركيزه على ضرورة تحديد وتوزيع المسؤوليّات في ما يخص الخسائر المتراكمة، في إطار التدقيق الشامل، نظرًا لارتباط هذا المسار بعمليّة التوزيع المنطقي والمقبول للخسائر لاحقًاً.

لكل هذه الأسباب، وبالرغم من عدم اشتراط الصندوق محاسبة حاكم مصرف لبنان عبر التدقيق الجنائي، كان من المفترض أن يجيب تدقيق آلفاريز آند مرسال على الكثير من أسئلة الصندوق وهواجسه، مثل فهم كيفيّة تراكم الخسائر عبر السنوات، تمهيدًا لتوزيع هذه الخسائر حسب توزّع المسؤوليّات. كما كان المفترض أن يفضي هذا التدقيق –حسب نطاق عمل الشركة في العقد- إلى تحليل الواقع المالي الحالي للمصرف المركزي، بعد مراجعة التركيبة المفصّلة لموجوداته والتزاماته واحتياطات العملة الصعبة التي مازال يملكها، بالإضافة إلى التحقّق من معايير الإفصاح المالي التي يعتمدها حاكم مصرف لبنان.

اليوم، وفي ظل استمرار العراقيل التي تحول دون بدء آلفاريز آند مارسال بمسار التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، لا يبدو أن الوفد الحكومي سيملك ما يقدّمه لصندوق النقد على مستوى التدقيق في أرقام مصرف لبنان. مع العلم أنّ الأرقام التي ارتكز عليها الوفد الحكومي لتقدير الخسائر مؤخّرًا، ليست سوى الأرقام غير المدقّقة التي قدّمها حاكم مصرف لبنان بنفسه، وهو ما سيعني أن الحكومة اللبنانيّة ستواجه قريبًا إشكاليّة "التدقيق الشامل" في ميزانيّات المصرف، الذي يطالب به صندوق النقد قبل التسليم بأرقام الخطة المطروحة.

إشكاليّة قياس الخسائر
في نيسان 2020، خلال تحضير خطّة حكومة حسان دياب للتعافي المالي، قدّرت شركة لازارد الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي بنحو 83 مليار دولار. وهو ما يشمل خسائر القطاع المتوقّعة من إعادة هيكلة الدين والاقتصاص من قيمة سندات الخزينة المملوكة من قبل المصارف، بالإضافة إلى فجوة الميزانيّات الناتجة عن الفارق ما بين التزامات القطاع للمودعين وموجوداته بالعملات الأجنبيّة. كما شمل هذا الرقم نسبة التعثّر المتوقّعة في القروض الممنوحة إلى القطاع الخاص.

ومنذ ذلك الوقت، تكبّد مصرف لبنان أكثر من 15 مليار دولار من الخسائر الإضافيّة، الناتجة عن الإنفاق من الاحتياطات لدعم الاستيراد. وهو ما يفرض زيادة الخسائر الإجماليّة المقدّرة الآن بهذه القيمة. لكنّ المفارقة كانت إعلان نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي أن الخطّة الجديدة قدّرت الخسائر المصرفيّة بنحو 68-69 مليار دولار لا أكثر، أي أنّها قلّت بنحو 15 مليار دولار عن الخسائر التي قدّرتها شركة لازارد في نيسان 2020، بدل أن تزيد بهذا القدر. بمعنى آخر، ثمّة أكثر من 30 مليار دولار من الخسائر التي كان يفترض أن يتعامل معها القطاع المصرفي، والتي تغاضت الخطّة الجديدة عن تحديدها.

في واقع الأمر، ولتخفيض الخسائر المحددة في الخطّة على هذا النحو، قامت اللجنة بتخفيض نسبة الاقتصاص من قيمة سندات الخزينة المملوكة من قبل المصارف، ما يعني زيادة الدين العام الذي سيتم الإبقاء عليه بعد إعادة هيكلته. كما قامت بالتسليم بالعديد من مقاربات حاكم مصرف لبنان الإشكاليّة، التي حاولت تخفيض الخسائر المقدّرة في ميزانيّات مصرف لبنان، باعتماد فرضيّات محاسبيّة غير مألوفة وغير علميّة وفقًا للمعايير المحاسبيّة العالميّة.

لهذا السبب، بالرغم من إعلان اللجنة الحكوميّة التوصّل إلى صيغة موحّدة مع مصرف لبنان لاحتساب الخسائر، من المتوقّع أن تواجه اللجنة صعوبة شديدة في إقناع الصندوق بهذه المقاربات، خصوصًا أن المباحثات التمهيديّة التي جرت مع الصندوق شملت بعض النقاشات التقنيّة، من دون أن تصل إلى مرحلة تسليم الصندوق بأي رقم محدد لخسائر القطاع المصرفي. وعلى أي حال، من المتوقّع أن تبرزالإشكاليّة الأساسيّة هنا في بعض المقاربات التي يعتمدها مصرف لبنان لاحتساب الفجوة في ميزانيّاته، والتي اعترض عليها الصندوق بشكل صريح ومباشر في جولات التفاوض السابقة خلال العام 2020، فيما قامت اللجنة الحكوميّة بتبنّيها اليوم في إطار الخطّة التي تعمل عليها.

الألغام الأهم: توزيع الخسائر والإصلاحات
اللغم الآخر سيكمن في عمليّة توزيع الخسائر لاحقًا، في إطار الخطّة التي ستقدّمها اللجنة الحكوميّة إلى وفد الصندوق خلال مرحلة التفاوض الرسمي. فحتّى اللحظة، ما زالت اللجنة تصر على تبنّي بعض المعالجات التي لا تنسجم كثيرًا مع الأولويّات التي أعلن عنها الصندوق خلال جولات التفاوض السابقة سنة 2020، ومنها ما سرّبته جمعيّة المصارف مؤخّرًا عن اتجاه الخطة لتحميل الدولة كلفة إعادة رسملة المصرف المركزي. وبهذه الطريقة، سيتم تخليص القطاع المصرفي من نسبة كبيرة من خسائره، التي تتركّز في توظيفاته لدى مصرف لبنان، وتكبيد الأموال العامّة كلفة إنقاذ القطاع المصرفي المفلس، عبر عمليّات الخصخصة أو الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص. وهذه المسألة بالتحديد تتعارض مع توجّهات صندوق النقد في ما يخص التعامل مع الخسائر المصرفيّة.

أما اللغم الأهم والأبرز، فسيكمن في الإصلاحات الأخرى التي يفرضها الصندوق: من تكريس استقلاليّة السلطة القضائيّة، إلى وضع خطّة ذات مصداقيّة لقطاع الكهرباء، بما يبعد القطاع عن حسابات السمسرة والمحاصصة في مشاريع المعامل والتوزيع والخدمات، بالإضافة إلى الإصلاحات المتعلّقة بالماليّة العامّة وآليّات الإنفاق وإعادة هيكلة القطاع العام. فمن الناحية العمليّة، من المتوقّع أن تواجه اللجنة المكلّفة بإدارة التفاوض مع الصندوق صعوبة كبيرة في فرض جميع هذه الإصلاحات في مجلس الوزراء، في ظل فقدان الانسجام والتكاتف بين مكوّنات الحكومة، وتضارب هذه الشروط مع مصالح أقطاب الحكم. باختصار، مسار التفاوض مع صندوق النقد لن يكون نزهة بسيطة، ومن غير المتوقّع اجتياز هذا المسار خلال المهلة القصيرة المتبقية قبل الانتخابات النيابيّة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها