الجمعة 2021/07/30

آخر تحديث: 13:17 (بيروت)

التفاؤل الخادع: ميقاتي بين ناريّ مصالح المنظومة وشروط الحل

الجمعة 2021/07/30
التفاؤل الخادع: ميقاتي بين ناريّ مصالح المنظومة وشروط الحل
في حال نجح ميقاتي بتشكيل حكومته، سيكون محكوماً بعوامل متضاربة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

من المبكر التنبّؤ باحتمالات نجاح ميقاتي في عمليّة تأليف الحكومة، خصوصاً أن مسار التأليف بدأ مع الحريري بالمناخات الإيجابيّة ذاتها، قبل أن تتفجّر كل الألغام بعد الدخول في تفاصيل الحصص. ومع ذلك، كان من الواضح أن ثمّة من أراد أن يشيع أجواء مفرطة في التفاؤل بتكليف ميقاتي، وبأثر ترؤسه الحكومة على الوضعين المالي والنقدي، فبدأ الحديث عن مساعدات فرنسيّة متوقعة بمجرّد تشكيل "حكومة ميقاتي"، بالنظر إلى علاقة الرجل الجيدة مع الفرنسيين. لا بل ثمّة من ذهب أبعد من ذلك للحديث عن "دفعة أولى عاجلة" متوقعة من قروض البنك الدولي، في أولى الأسابيع التي ستلي نيل الرجل الثقة في المجلس النيابي، فيما ارتكزت هذه النظريّة على قرب الرجل من أجواء خبراء الصندوق وخطوطه المفتوحة معهم.

صندوق النقد: لغة الشروط الماليّة
بالنسبة إلى المصادر المطلعة على أجواء خبراء صندوق النقد، يعتبر الصندوق أن وجود أي حكومة بالمطلق سيمثّل خطوة إلى الأمام في ما يخص مسار التفاوض مع الدولة اللبنانيّة، لكون المفاوضات معلّقة حالياً، بانتظار وجود سلطة تنفيذيّة تملك صلاحيّة الشروع بمخاطبة الصندوق بناءً على خطّة ماليّة واضحة المعالم. علماً أن انقطاع محادثات الصندوق مع الدولة اللبنانيّة في الوقت الراهن، لم يؤثّر على متابعة الصندوق لتطورات الشأن اللبناني عن كثب، من بوابة بعض مشاريع الدعم التقني المستمرّة، التي لم تتوقّف بعد استقالة حكومة دياب، وهو ما سيسهّل العودة إلى طاولة المفاوضات لاحقاً. أما بالنسبة إلى شخص ميقاتي نفسه، فهو من الشخصيات التي تملك منذ وقت طويل علاقات وثيقة ببعض المسؤولين والخبراء في الصندوق، ما يعني أنه من الذين يفهمون لغة الصندوق ويدركون أولوياته.

لكن كل ذلك لا يعني افتراض وجود أي تسهيلات في ما يخص الدعم المالي، أو رزم القروض التي يطلبها لبنان من صندوق النقد، الذي لا تسير آليات عمله إلا بلغة الشروط الماليّة والخطط الاقتصاديّة المتكاملة. فبالنسبة إلى صندوق النقد، النقطة الأساس لأي مفاوضات مقبلة لن ترتبط بنوعيّة الممسكين بالقرار السياسي أو التنفيذي، بل بشكل الخطّة الماليّة التي ستسير عليها الدولة اللبنانيّة في المرحلة المقبلة، ومدى ملاءمة هذه الخطة لطبيعة الشروط التي حددها صندوق النقد منذ بداية الانهيار، بالنسبة إلى الملف اللبناني. وعند وضع هذه الخطة، والتثبّت من قدرة الحكومة على فرضها لاحقاً أو التفاهم عليها مع كل من المصرف المركزي والسلطة التشريعيّة، يمكن عندها جدولة رزم القروض وفق برنامج مرحلي، يتوازى مع تنفيذ الشروط والإصلاحات المطلوبة.

باختصار، لن يكون وجود ميقاتي كشخص عاملاً إيجابياً أو سلبياً بحد ذاته على ملف التفاوض مع الصندوق، بل سيرتبط هذا الملف بمدى اقتناع ميقاتي نفسه لاحقاً بضرورة صياغة خطة مبنيّة على أولويات الصندوق نفسها، وبمدى قدرته على فرض هذه الخطة على الجميع. وهنا يذكّر البعض بتجربة حكومة حسان دياب، التي استعانت بأكثر الخبراء والاستشاريين قرباً من صندوق النقد لإنجاز خطتها والتفاهم عليها مع الصندوق. لكنّ مسار التفاوض بأسره تعثّر لاحقاً لمجرّد عدم امتلاك الحكومة قدرة فرض هذه الخطة في المجلس النيابي والمصرف المركزي.

ميقاتي بين نارين
إلى أي حد سيذهب ميقاتي بعيداً في السير في الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد؟ لا بل إلى أي حد سيتمكّن من فرض هذه الشروط على سائر الأفرقاء، إذا أراد ذلك فعلاً؟ علماً أن هذه الإصلاحات هي من النوع الموجع للمنظومتين السياسيّة والماليّة اللتين تتحكمان بالبلاد اليوم، وتمتد من التدقيق الشامل في أرقام مصرف لبنان، وتحديد الخسائر المتراكمة في النظام المصرفي بكل صراحة ووضوح، إلى فرض استقلاليّة السلطة القضائيّة، ووضع خطة كاملة للكهرباء تناقض الصفقات التاريخيّة المعقودة في القطاع. أما النقطة الأكثر حساسيّة في الموضوع، فتتعلّق بكيفيّة التعامل مع خسائر النظام المالي، وتوزيعها على المستفيدين التاريخيين فيه، وهي مسألة تمس بمصالح تاريخيّة في النظام المصرفي، لا بل تمس بتوازنات حساسة ذات طابع مذهبي، إذا وصل الأمر إلى تغيير هويات الأطراف الممسكة بملكيّة المصارف.

هنا تتضارب العوامل التي ستؤثّر بتوجهات ميقاتي وخططه. فالرجل من جهة مقرّب من الفرنسيين، لا بل مرتبط تاريخياً بمصالح ماليّة كبيرة مع الشركات الفرنسيّة، ومن المعروف أن هذه العلاقات هي ما مكّنه من تزكية اسم مستشاره السابق مصطفى أديب، ليتم تكليفه بتشكيل حكومة المهمّة المنبثقة عن المبادرة الفرنسيّة، قبل أن تتعثّر تلك المحاولة. هنا، من المرتقب أن تمثّل هذه العلاقة مع الفرنسيين عامل ضاغط باتجاه الالتزام ببعض أولويات صندوق النقد، ومنها تلك التي ترتبط بملف التدقيق الشامل في ميزانيات مصرف لبنان، وطريقة توزيع الخسائر. لا بل وحتّى في ما يخص بعض الإجراءات التي لم يطلبها صندوق النقد، كإقصاء حاكم مصرف لبنان الذي لعب –بنظر الفرنسيين- دوراً محورياً في عرقلة تنفيذ جميع الإصلاحات المطلوبة من لبنان.

لكن من ناحية أخرى، يبدو ميقاتي محكوماً بالكثير من العوامل المحليّة، التي لن تسهّل ذهابه بعيداً في الالتزام بهذه المسائل. فتكليف الرجل مربوط بالدعم الذي قدّمه له كل من سعد الحريري ونبيه برّي. وكلا الرجلين وقفا طوال الفترة الماضية على الضفّة الرافضة لكل هذه التوجهات. لا بل كانا الأكثر صراحة في تقديم الغطاء السياسي لحاكم مصرف لبنان، وفي الاندفاع بعيداً في إسقاط خطة حكومة دياب، لتضاربها مع مصالح القيمين على النظام المصرفي اللبناني. وحتّى ميقاتي نفسه، تحكمه علاقة تبادل مصالح وثيقة بحاكم المصرف المركزي نفسه، ولعلّ أبرز سمات هذه العلاقة تجلّت في استفادة مجموعة ميقاتي من ما يقارب 34.1 مليون دولار من القروض العقاريّة الميسّرة، الممولة من الاحتياطات المودعة في المصرف المركزي. وهي قروض تم منحها لميقاتي خلال ترؤسه الحكومة بين عامي 2011 و2013. مع الإشارة إلى أن هذه الفترة شهدت موافقة مجلس الوزراء على التجديد لرياض سلامة لولاية كاملة.

في الواقع، ثمّة عامل آخر يدخل على الخط هنا. فمن جهة العهد والتيار الوطني الحر، ثمّة حماسة ضمنيّة لبعض هذه الشروط، وخصوصاً تلك التي تحشر حاكم مصرف لبنان، كمسألة التدقيق في ميزانيات المصرف المركزي ومحاسبته. لكنّ العهد والتيار كانا في الوقت نفسه من أبرز المعرقلين للكثير من الشروط الإصلاحيّة الأخرى، كمسألة التشكيلات القضائيّة وتكريس استقلاليّة السلطة القضائيّة، بالإضافة إلى الشروط التي تُعنى بشفافيّة صفقات قطاع الكهرباء، ونوعيّة الخطة التي سيتم اعتمادها لإصلاح هذا القطاع. ولهذا السبب، سيكون أمام ميقاتي الكثير من العراقيل من هذه الجهة بالتحديد، خصوصاً إذا لم تُحاط الحكومة المقبلة بالكثير من الرضا من جهة التيار الوطني الحر.

باختصار، وفي حال نجح ميقاتي بتشكيل حكومته، سيكون الرجل محكوماً بعوامل متضاربة، وسيقع بين نارين: بين أثر الضغط الفرنسي وإدراكه لأهميّة برنامج صندوق النقد لاستعادة الثقة الدوليّة من جهة، وبين ارتباطاته ومصالحه الشخصيّة المحليّة، ورفض القاعدة السياسيّة المحيطة بحكومته لهذه الإصلاحات من جهة أخرى. وفي هذا المسار، لا شيء يضمن تمكنه من فرض الإصلاحات التي يتحدّث عنها صندوق النقد، حتّى لو اقتنع بأن مصلحة حكومته تكمن في تنفيذها.

فرنسا: طبقوا شروط الصندوق أولاً
بالنسبة للفرنسيين وسائر دول الاتحاد الأوروبي، ومهما كان رئيس الحكومة مقرباً من دوائر القرار في باريس، لن يكون هناك أي مساعدات مباشرة للحكومة اللبنانيّة، بمعزل عن مسار التفاوض والتفاهم مع صندوق النقد الدولي، مع العلم أن ذلك لا ينفي وجود مسارات قائمة لدعم مجموعة واسعة من المؤسسات الإنسانيّة ومجموعات المجتمع المدني والجيش. فأي دعم مالي مباشر للحكومة، لا يتوازى مع برنامج محكم ومدروس مع صندوق النقد، سيُعد بالنسبة إلى المجتمع الدولي إلتفافاً على الأجندة الإصلاحيّة التي يطرحها الصندوق، خصوصاً أن حاجة الدولة والمصرف المركزي إلى العملة الصعبة تمثّل حالياً عامل الضغط الوحيد الذي يمكن استخدامه لفرض هذه الأجندة. ومن هنا، يمكن فهم إشارة جميع سفراء الدول الأجنبيّة إلى مسار التفاوض مع الصندوق، بمجرّد الحديث عن حاجة الدولة اللبنانيّة للمساعدات الخارجيّة.

بالتأكيد، سيكون على اللبنانيين تتبع مسار التشكيل خلال الأيام المقبلة، لتوقّع إمكانيّة نجاح ميقاتي في مهمّته. لكن من المؤكّد أيضاً أن جميع الأجواء التي بالغت بالتفاؤل في مستقبل الوضع المالي بمجرّد تشكيل حكومة ميقاتي، ابتعدت عن الواقعيّة، وتحديداً من ناحية التسليم بقدرة الرجل على الامتثال لشروط الحل، حتّى لو أراد ذلك. فما أعاق تنفيذ الأجندة الإصلاحيّة في لبنان طوال السنة الماضية، كان أبعد من مجرّد علاقة بعض الرموز بالمجتمع الدولي، إذ ارتبط ذلك بمصالح عميقة وراسخة داخل المنظومتين السياسيّة والماليّة، وهو تحديداً ما سيعيق تنفيذ أي خطّة قادرة على انتشال لبنان من محنته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها