الثلاثاء 2021/12/14

آخر تحديث: 17:30 (بيروت)

جنون الدولار يعصف باللبنانيين: سياسة نقديّة متعمَّدة

الثلاثاء 2021/12/14
جنون الدولار يعصف باللبنانيين: سياسة نقديّة متعمَّدة
ستكون الأسواق حتمًا على موعد مع موجة تضخّم قاسية مقبلة (Getty)
increase حجم الخط decrease

واصل سعر صرف الدولار الأميركي منذ صبيحة اليوم الثلاثاء مسار صعوده السريع في مقابل الليرة اللبنانيّة، ليتجاوز حدود 28,400 ليرة لبنانيّة، في مستوى قياسي غير مسبوق على الإطلاق. مع الإشارة إلى أن السوق الموازية افتتحت تداولاتها في بيروت بسعر 27,500 ليرة للدولار، ما يشير إلى سعر الانحدار اليومي في قيمة العملة المحليّة. وعلى وقع هذه التطوّرات، سارعت المتاجر في عدّة مناطق لبنانيّة إلى إقفال أبوابها، بانتظار تبيان مآل سعر صرف الليرة، قبل إعادة تسعير بضاعتها، وفقًا لأسعار الصرف الجديدة، فيما قام عدد كبير من الصرّافين بالتوقّف عن بيع الدولار لسبب نفسه.

سقف السحوبات ودولارات المحروقات
في خلاصة الأمر، ستكون الأسواق حتمًا على موعد مع موجة تضخّم قاسية مقبلة، كنتيجة بديهيّة لهذا التدهور في قيمة العملة المحليّة، خصوصًا كون سعر المازوت بات يعتمد بشكل مباشر على كلفة الحصول على الدولار من السوق الموازية لاستيراده، بينما رفع مصرف لبنان نسبة الدولارات التي يفترض أن يتم تأمينها من السوق الموازية لاستيراد البنزين إلى 15%. ومع ارتباط أسعار السلع في السوق بثمن المحروقات التي تستخدمها المؤسسات التجاريّة، بات مؤشّر التضخّم اليوم تحت ضغط عاملين: ارتفاع أسعار البضائع المستوردة نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، وارتفاع أسعار السوق نتيجة غلاء المحروقات. مع العلم أن رفع سعر صفيحة البنزين صباح اليوم كان مجرّد نتيجة لارتفاع سعر صرف الدولار خلال الأيام الماضية، بينما من المتوقّع أن يشهد ثمن الصفيحة ارتفاعات إضافيّة إذا استمرّ انخفاض قيمة الليرة بهذه الوتيرة.

في الشكل، جاءت موجة صعود الدولار الأخيرة بعد قرار مصرف لبنان رفع سعر الصرف المعتمد للسحوبات النقديّة بالليرة من الودائع المدولرة من 3900 ليرة لبنانيّة لغاية 8000 ليرة. وهو ما أشعل موجة من الطلب على الدولار نتيجة توقّع الأسواق انحدار مقبل في قيمة الليرة، بفعل الزيادة المرتقبة بحجم السيولة المتداولة بالليرة بعد هذا القرار. وموجة الهلع هذه، جاءت مدفوعة بتصريحات سابقة لحاكم مصرف لبنان نفسه، توقّع فيها تأثيرات سلبيّة على سعر صرف الليرة في حال رفع سعر الصرف المعمول به لهذا النوع من السحوبات من المصارف. وبين توقّعات الحاكم السابقة التي أراد منها تبرير رفض رفع سعر صرف السحوبات، ومن ثم قراره المستجد برفع سعر الصرف هذا، ثمّة تخبّط صارخ في السياسة النقديّة، كانت نتيجته الجنون الذي شهدته سوق القطع خلال الأيام الماضية.

على أي حال، لم يكن قرار الحاكم الذي تلى تصريحه السلبي العلامة الوحيدة على تخبّط السياسة النقديّة. فخلال الأيام الماضية، قرر مصرف لبنان رفع نسبة الدولارات التي يفترض تأمينها لاستيراد البنزين من السوق الموازية من 10% إلى 15%، مع كل ما يعنيه من ارتفاع للطلب على الدولار في هذه السوق، وزيادة في الضغط على قيمة الليرة اللبنانيّة. بمعنى آخر، كان قرار رفع سعر صرف السحوبات، وما نتج عنه من موجة شراء للدولار، يتزامن مع قرار إشكالي آخر يدفع السوق بالاتجاه نفسه، ما أدى إلى تسارع وتيرة هبوط قيمة الليرة خلال أيام قليلة. مع العلم أن السوق الموازية تعمل منذ أشهر تحت وطأة ارتفاع الطلب على الدولار لاستيراد المازوت، بعد أن قرّر مصرف لبنان إحالة مستوردي هذه المادّة إلى السوق السوداء بشكل تام لتأمين العملة الصعبة المطلوبة للاستيراد.

فشل المنصة
باختصار، لا يملك مصرف لبنان اليوم رؤية متماسكة لكيفيّة إدارة السياسة النقديّة، وتحديدًا من جهة كيفيّة الوصول إلى سعر صرف عائم وموحّد ومضبوط من قبل المصرف المركزي. وهذه الإشكاليّة تحيلنا تلقائيًّا للسؤال عن منصّة المصرف المركزي، التي كان من المفترض أن تكون أداة الحاكم لتوحيد أسعار الصرف، والتخلّص من آليّات عمل السوق السوداء وفوضى سوق القطع. وكان من المتوقّع أن تكون هذه المنصّة بالتحديد الأداة التي تسمح للمصرف المركزي بالتدخّل في السوق لحماية قيمة الليرة اللبنانيّة، بعد أن تستوعب المنصّة عمليّات بيع وشراء الدولار عوضًا عن السوق الموازية.

كما بات واضحًا، لم تنجح المنصّة في لعب هذا الدور، بدليل استمرار انفلات السوق السوداء بسعر صرفها الخاص من دون ضوابط، بل وبدلالة إحالة الحاكم مستوردي المحروقات إلى هذه السوق بدل تأمين العملة الصعبة من خلال المنصّة نفسها. ويمكن القول هنا أن خطّة مصرف لبنان لم تتسم منذ البداية بالجديّة المطلوبة في ما يخص هذه المنصّة، وهو ما يمكن تلمّسه أساسًا من أسعار الصرف التي اعتمدها لإطلاق وتشغيل هذه المنصّة، والتي ظلّت عند مستويات لا تتناسب مع سعر الصرف الفعلي في السوق.   

لا نية لتوحيد سعر الصرف
بمعنى آخر، لم يملك مصرف لبنان فعلًا نيّة الوصول إلى مرحلة سعر الصرف الموحّد والعائم والمضبوط لسعر الصرف. وهذه الحقيقة، ترتبط بجملة من المصالح التي تستفيد من سياسة تعدد أسعار الصرف وفوضى سوق القطع، وأهمّها أسعار الصرف المتعددة المعتمدة بشكل استنسابي للسحوبات النقديّة بالليرة من الودائع المدولرة، والتي باتت شكل من أشكال "الهيركات" الذي يسمح للمصارف بالتخلّص تدريجيًّا من التزاماتها للمودعين. وهذه الأسعار المتعدّدة يفترض أن تختفي بمجرّد اعتماد البلاد سعر صرف موحّد وعائم. كما ترتبط هذه المصالح بسعر الصرف الرسمي القديم، أي 1507.5 ليرة للدولار، والمعتمد للتصريح عن التزامات المصارف للمودعين بالدولار، في الميزانيّات المقوّمة بالعملة المحليّة. وبذلك، يصبح هذا السعر الوهمي مجرّد طريقة لإخفاء قدر كبير من الخسائر، التي ستنكشف بمجرّد التصريح عن قيمة الالتزامات المدولرة بسعر الصرف الفعلي إذا تم توحيد أسعار الصرف بشكل منظّم.

بلغة أوضح: ثمّة مستفيدون من تخبّط السياسة النقديّة في ظل الانهيار، وهناك ما يكفي من أسباب تدفع لإبقاء الوضع رهينة فوضى إدارة الشأن النقدي. ولهذا السبب تحديدًا، باتت الأمور متروكة لسوق القطع الموازية، مع كل ما يرافق ذلك من تذبذبات ناتجة عن قرارات مصرف لبنان المتعلّقة بآليّات تمويل الاستيراد وإجراء السحوبات بالليرة من الودائع المدولرة. هذا تحديدًا ما يجعل جنون الدولار الحالي ثمن من أثمان حماية هذه المصالح.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها