الإثنين 2021/10/25

آخر تحديث: 13:12 (بيروت)

1.74 مليار دولار: مضاربات المصارف في السوق السوداء

الإثنين 2021/10/25
1.74 مليار دولار: مضاربات المصارف في السوق السوداء
امتصاص المصارف لكتلة الكبيرة من العملة الصعبة من السوق الموازية سبّب تسارعاً بالانهيار (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

منذ بدايات الأزمة، كثر الحديث عن حركة المصارف النشطة في السوق السوداء، والتي تركّزت على امتصاص الدولارات منها بأشكال مختلفة، في محاولة لتعويم حساباتها في الخارج، أو على الأقل سداد التزاماتها للمصارف الأجنبيّة. هذا النوع من الممارسات، اتخذ أشكالاً مختلفة: من شراء الدولار الورقي من الصرّافين مقابل شيكات مصرفيّة، أو عبر منح المقترضين حسومات كبيرة على دفعاتهم مقابل سداد الدفعات بالدولار النقدي. في بعض الأحيان، تم تسجيل عمليّات شراء للدولار الورقي من الصرّافين، مقابل مبالغ بالليرة اللبنانيّة، وبسعر صرف يفوق الأسعار الرائجة في السوق السوداء. وفي كل الحالات، كانت النتيجة واحدة: المزيد من شح الدولار النقدي في السوق الموازية، وتسارع وتيرة التدهور في سعر صرف الليرة اللبنانيّة.

خلال شهر آب الفائت، قرر مصرف لبنان وضع حد لهذا النوع من العمليّات التي قامت بها جميع المصارف من دون استثناء، من خلال تعميم منع المصارف من "شراء العملات الأجنبيّة في السوق الموازية"، في خطوة تم تفسيرها كتمهيد لدخول المصرف المركزي نفسه على خط شراء دولارات السوق السوداء، عبر منصّته. ومنذ ذلك الوقت، توقّفت جميع العروضات المصرفيّة المغرية التي كانت تحاول امتصاص الدولار الورقي من السوق، بوسائل وأشكال مختلفة.

وبعد انتهاء حقبة ألاعيب المصارف في السوق السوداء، لم يقدّم أحد أي تقديرات لحجم هذه العمليات التي جرت قبل قرار مصرف لبنان في شهر آب الفائت. كما لم يتضح أثرها على سعر صرف الليرة اللبنانيّة. أما الآن، وبعد أن نشر مصرف لبنان منذ أيام الميزانيات المصرفيّة المجمّعة كما في نهاية شهر آب الماضي، بات بالإمكان احتساب قيمة الدولارات التي سحبتها المصارف من السوق السوداء في تلك المرحلة، كما بات بالإمكان تقدير الأثر الذي تركته على سعر الصرف.

الفارق بين الالتزامات والموجودات
أرقام الميزانيات المصرفيّة حتّى نهاية شهر آب الماضي، تظهر أن المصارف باتت تمتلك في حساباتها لدى المصارف المراسلة نحو 5.12 مليار دولار، مقابل إلتزامات للمصارف الأجنبيّة تبلغ قيمتها 5.26 مليار دولار. وبذلك، يسجّل صافي الموجودات الخارجيّة للقطاع المصرفي اللبناني، أي الفارق بين الالتزامات والموجودات في الخارج، عجز بقيمة 140 مليون دولار. هذا العجز يعني ببساطة أن المصارف مازالت عاجزة عن الإيفاء بجميع التزاماتها في الخارج، من خلال المبالغ الموجودة الآن في حساباتها لدى المصارف المراسلة.

على أي حال، تظهر أرقام القطاع المصرفي نفسها أن المصارف لم تكن تملك قبل سنة واحدة من هذا التاريخ، أي في شهر آب من العام 2020، إلا نحو 4.39 مليار دولار في حساباتها لدى المصارف المراسلة، في مقابل التزامات للمصارف الأجنبيّة بلغت حدود 7.47 مليار دولار. وبذلك، يكون صافي الموجودات الخارجيّة، أي فارق الالتزامات والموجودات في الخارج، قد سجّل في آب 2020 عجزاً كبيراً بلغت قيمته 3.08 مليار دولار.

بمعنى آخر، وخلال سنة واحدة بين آب 2020 وآب 2021، تمكنت المصارف من تقليص العجز في صافي موجوداتها الخارجيّة بنحو 2.94 مليار دولار، أي أنّها عومت سيولتها في الخارج بهذه القيمة. هذه السيولة، نتجت أساساً من مصدرين: عمليات شراء الدولارات النقديّة من السوق الموازية، التي توقفت أخيراً في آب 2021، وعمليات بيع فروع المصارف اللبنانيّة في الخارج.

وإذا أخذنا بالاعتبار أن عمليات بيع الفروع المصارف اللبنانيّة في الخارج لم ينتج عنها سيولة تتجاوز قيمتها 1.2 مليار دولار، عندها يمكن الاستنتاج أن حجم الدولارات التي سحبتها المصارف من السوق الموازية أو السوداء اللبنانيّة يتجاوز حدود 1.73 مليار دولار، خلال السنة الممتدة بين آب 2020 وآب 2021.

سبب أساسي لانهيار الليرة
أرقام الجمارك اللبنانيّة، تظهر أن حجم العجز في الميزان التجاري اللبناني –أي الفارق بين حجم الصادرات والواردات- انخفض خلال العام 2020 ليبلغ حدود 7.75 مليار دولار، بعد أن كان هذا العجز يناهز حدود 15.5 مليار دولار خلال العام 2019. مع الإشارة إلى أن هذا الانخفاض نتج أساساً عن تراجع قيمة السلع المستوردة، بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار وتراجع القيمة الشرائيّة لأجور المقيمين في لبنان ورواتبهم.

في كل الحالات، ما تعنيه هذه الأرقام باختصار هو أن السوق المحلي لم تكن تحتاج إلى أكثر من 7.75 مليار دولار من العملة الصعبة خلال العام الماضي، لتمويل الفارق بين ما تستورده البلاد وما تصدّره من سلع وخدمات. في المقابل، وفي السنة نفسها، ورد إلى السوق الموازية نحو 6.29 مليار دولار من تحويلات المغتربين. كما قام مصرف لبنان بتأمين الدولارات من احتياطاته لتمويل استيراد السلع الأساسيّة. ولهذا السبب بالتحديد، لم يكن المفترض أن يؤدّي الطلب على الدولار، لغايات الاستيراد فقط، إلى هذا القدر من التدهور في سعر صرف العملة المحليّة.

هنا يمكن فهم أثر الدور الذي لعبته المصارف خلال العام الماضي على سعر صرف السوق الموازية، من خلال امتصاص هذه الكتلة الكبيرة من العملة الصعبة من السوق الموازية وبشكل مستمر ومنتظم، وعبر عرض أسعار مرتفعة لشراء الدولار من السوق مقارنة بالأسعار الرائجة. مع الإشارة إلى أن بعض المصارف نسجت طوال الفترة الماضية علاقات وطيدة مع تجار السوق السوداء في جميع المناطق، للتمكن من اجتذاب دولارات السوق بشتى العروض التي كانت تقدّمها.

المصارف مفلسة
بمعزل عن كل هذه التطورات، ورغم كل الضرر الذي سببه سحب المصارف للدولارات من السوق الموازية، مازالت المصارف بحكم المفلسة من الناحية العمليّة. فوجود عجز بقيمة 140 مليون دولار في صافي موجودات المصارف الخارجيّة، يعني أن المصارف غير قادرة على الالتزام لمدة خمس سنوات بتأمين نصف قيمة السحوبات النقديّة بالدولار الأميركي، التي ينص عليها تعميم مصرف لبنان رقم 158. علماً أن التعميم المذكور ينص على تسديد نصف قيمة هذه السحوبات من الاحتياطات الإلزامية التي أودعتها المصارف لدى مصرف لبنان، في حين يفترض أن تؤمن المصارف النصف الآخر من هذه السيولة من حساباتها في الخارج.

من ناحية أخرى، يدل العجز الموجود في صافي موجودات المصارف في الخارج على أنّها لن تستعيد قريباً ثقة المصارف المراسلة في الخارج، وهو ما يعني أنها لن تكون قادرة على تقديم أبسط الخدمات المصرفيّة التي يفترض أن يتمكّن أي مصرف طبيعي من تقديمها. ففي الوقت الراهن، لا تملك المصارف القدرة على الحصول على أي تسهيلات جديدة من المصارف الأجنبيّة، ولا القدرة على فتح اعتمادات مستنديّة إلا إذا قدّمت في المقابل ضمانات نقديّة، لا بل انحسرت حتّى قدرة المصارف اللبنانيّة على فتح حسابات جديدة لدى المصارف المراسلة، بسبب ارتفاع مخاطر العمليات المصرفيّة في لبنان. كل هذا المشهد، لا يبدو أنّه سيتبدّل في القريب العاجل.

أخيراً، من الواضح أن كل ما تم تسويقه خلال الأشهر الماضية من خطط وتعاميم من قبل مصرف لبنان في ما يخص إعادة الانتظام إلى العمل المصرفي لم يكن سوى سلة أوهام، وخصوصاً في ما يتعلّق بإعادة تكوين سيولة المصارف لدى المصارف المراسلة. في خلاصة الأمر، من غير الواقعي توقّع أي تطور إيجابي على هذا المستوى، قبل الاعتراف الواضح والصريح بفجوة الخسائر الموجودة حاليّاً في القطاع، وقبل وضع تصوّرات واضحة لكيفيّة التعامل مع هذه الخسائر ومعالجتها. هذه المسألة، هي تحديداً ما يفترض أن تنكب عليه الحكومة اليوم، في إطار خطتها للتعافي المالي التي سيتم على أساسها التفاوض مع صندوق النقد الدولي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها