السبت 2021/10/16

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

الحكومة سقطت..ولا مجال للتحايل على صندوق النقد

السبت 2021/10/16
الحكومة سقطت..ولا مجال للتحايل على صندوق النقد
مأزق الحكومة الكبير يتجلى في تحقيقات المرفأ ومفاوضات صندوق النقد (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

قد تتمكّن حكومة ميقاتي من الصمود، والاستمرار في ممارسة مهامها كحكومة مكتملة الصلاحيّات حتى حصول الانتخابات النيابيّة، من دون أن يستقيل رئيسها، ومن دون أن ينسحب أحد أثلاثها "الضامنة" التي تتشكّل خطوط تماسها حسب موضوع الاستقطاب في كل مرحلة. لكن من المؤكّد بعد تطورات الأيام الماضية، أن هذه الحكومة قد تلقّت ما يكفي من ضربات على المستويين السياسي والاقتصادي، لتسقط قدرتها على القيام بالمهمّة التي وجدت لأجلها في هذه المرحلة، أي مباشرة الإجراءات التصحيحيّة التي تمهّد للخروج من الانهيار المالي. وبذلك، يمكن القول أن الحكومة سقطت بالمعنى الوظيفي، ليصبح دورها أقرب إلى تمرير الوقت بانتظار الانتخابات، إلّا إذا أفضت التطورات إلى إسقاطها فعليّاً من الناحية الدستوريّة.

لغم سياسي ولغم اقتصادي
على المستوى السياسي، كان اللغم الأوّل الذي انفجر هو تعثّر الحكومة وعجزها عن وضع المخرج المطلوب لمسألة تحقيقات المرفأ، وصولاً إلى فشلها في عقد اجتماع حكومي بعد انفجار هذا اللغم. واليوم، باتت الحكومة بين مطرقة المجتمع الدولي، الذي يلح على استكمال هذه التحقيقات بشفافيّة، بالإضافة إلى تلويح الاتحاد الأوروبي بعقوبات بحق معرقلي العمليّة السياسيّة، وسندان الثنائي الشيعي الذي عطّل جلسات الحكومة، بمعونة تيّار المردة الذي منحه "الثلث الضامن" في هذا الملف بانضمامه إلى المواجهة. هنا، ستكون الحكومة أمام استحقاق انكشافها أمام المجتمع الدولي، وفقدانها الغطاء الدولي المطلوب بشدّة للتعامل مع الاستحقاقات الماليّة الداهمة.

لكن على المستويين المالي والاقتصادي، بدأت تتفجّر بالتوازي ألغام لا تقل أهميّة عن اللغم الأوّل. فالاجتماعات والمداولات الأخيرة بدأت تكشف للحكومة ووفدها الذي سيفاوض صندوق النقد استحالة التوفيق ما بين شروط الصندوق ومعاييره من جهة، وأولويات المصارف التي أراد وفد الحكومة مراعاتها من جهة أخرى. وبشكل أدق، صار من الواضح للوفد أن الألاعيب التي كان يحضّرها للتحايل على موضوع الاعتراف بالخسائر، لن تمر بسهولة خلال المفاوضات، وهو ما وضع الحكومة أمام مأزق كبير ستبدأ تفاصيله بالانكشاف تباعاً أمام الرأي العام خلال المرحلة المقبلة. هنا بالتحديد، تلقّت الحكومة ضربة جديدة للدور الوظيفي الذي كان يفترض أن تقوم به، أي مواءمة برنامج الصندوق وخطة الحكومة الجديدة مع مقاربات جمعيّة المصارف ومصرف لبنان التي يتبناها أغلب أقطاب هذه الحكومة.  

رهانات الوفد الحكومي
أعدّ رئيس الحكومة العدّة جيّداً للمفاوضات مع صندوق النقد، من خلال تشكيل وفد ينسجم في توجهاته العامّة مع تطلعات حاكم المصرف المركزي وجمعيّة المصارف، والمعالجات المقترحة من قبلهما. لا بل حرص ميقاتي على منح هذا الوفد هامش الاستقلاليّة الخاص به، عن كل من شركة لازارد التي ما زالت تلعب دور الاستشاري المالي للحكومة، وكليري غوتليب التي ما زالت أيضاً تلعب دور المستشار القانوني في عمليّة التفاوض مع حملة سندات اليوروبوند. وخلال الفترة الماضية، عقد وفد التفاوض اجتماعات مطوّلة وخاصّة مع كل من مصرف لبنان وجمعيّة المصارف، لمحاولة التوصّل إلى تعديلات جذريّة في خطة التعافي الماليّة التي أعدتها حكومة دياب بمعاونة لازارد.

المصادر الحكوميّة تؤكّد أن وفد التفاوض مع الصندوق لم يكن يعمل خلال هذه الاجتماعات على تحديث أرقام الخطّة، لمواكبة التغييرات في سعر الصرف أو حجم الخسائر، بل عمل على تغييرات جذريّة تطال آليّة احتساب الخسائر نفسها، وطريقة التعامل معها بعد احتسابها. كما عمل الوفد على الانقلاب على جوهر الخطّة السابقة من خلال تقليص نسبة الخسائر التي ستتحمّلها في المحصّلة الرساميل المصرفيّة، وزيادة تلك التي سيتم تحميلها إلى الأموال العامّة عبر شركة خاصّة لإدارة أصول الدولة.

وعلى ما يبدو، حاول الوفد من خلال هذه الاجتماعات استباق محادثاته مع لازارد وكليري غوتليب، لترتيب أهداف ومقاربات معيّنة مع المصارف ومصرف لبنان، ومن ثمّ إسقاطها على الشركتين الاستشارتين وإلزامهما بها. وفي المحصّلة، راهن الوفد على إمكانيّة فرض رؤيته على الاستشاريين بوصفهما يعملان بتكليف من الحكومة نفسها، ويفترض بهما العمل على أساس الفرضيات والأهداف التي تضعها لهما الحكومة. 

لازارد وكليري غوتليب: لا تتذاكوا على الصندوق
لكن ما إن رتّب الوفد الحكومي أوراقه كما خطط، وبدأ محادثاته مع لازارد وكليري غوتليب، حتّى فوجىء بنوعيّة التوصيات التي وردته من الشركتين الاستشاريتين. عمليّاً، نبهت الشركتان الوفد الحكومي بأن جميع هذه المقاربات في طريقة تحديد الخسائر هي تذاكٍ وتحايل على صندوق النقد، كما جزمت لازارد بالتحديد أن أيّاً من هذه الألاعيب لن تنطلي على وفد الصندوق، الذي حضّر نفسه جيّداً لجولة المفاوضات الجديدة.

أما إذا أصرّت الحكومة على التوجّه إلى المفاوضات بهذه النوع من الخطط، فستتحمّل أمام المجتمع الدولي والرأي العام مسؤوليّة تطيير المفاوضات بأسرها، في سبيل حماية مصالح خاصّة، وخصوصاً إذا وجد الصندوق أن ثمّة هوّة كبيرة بين رؤيته للأزمة والمعالجات وتلك التي تتبناها الدولة اللبنانيّة. كما نبّهت لازارد من المضي قدماً بتطلّعات رياض سلامة لمعالجة الأزمة المصرفيّة بالتحديد، خصوصاً أن وفد الصندوق أبدى خلال جولة المفاوضات السابقة استغرابه من خطط وتعاميم حاكم المصرف المركزي، وحذّر من تداعياتها المدمّرة على العملة الوطنيّة في المستقبل. 

في الوقت نفسه، حذّرت لازارد الوفد اللبناني من مغبّة التوجّه إلى المفاوضات مع الصندوق بأي خطّة قد تنطوي على توجّه نحو عمليّات خصخصة، للتعامل مع خسائر القطاع المالي بالتحديد، مذكّرةً بحساسيّة الصندوق من فكرة منح قروض لدول تبدد الأموال أو الأصول العامّة في سبيل التعامل مع خسائر مصرفيّة. أمّا الأهم، فهو اعتبار لازارد أن بيع أصول الدولة في حقبة انهيار مالي شامل ستعني عملياً تبديد هذه الأصول بأبخس الأثمان، بالنظر إلى تدنّي قيمة ما يمكن تحصيله من عمليات الخصخصة خلال هذا النوع من الانهيارات. مع الإشارة إلى أن لازارد لم تجد إشكاليّة في تشكيل شركة لاستثمار أصول الدولة، عبر شراكات معيّنة مع القطاع الخاص، طالما أن الهدف هو استقدام الاستثمار الأجنبي وليس إطفاء خسائر القطاع المصرفي. 

ورطة الحكومة
بعد كل هذه التطوّرات، باتت الحكومة بأسرها في ورطة يصعب الخروج منها. فمن ناحية، كان المضي قدماً في المفاوضات مع صندوق النقد المهمّة الأساسيّة التي كان يفترض أن تقوم بها الحكومة، وخصوصاً كون الدخول في برنامج قرض مع الصندوق يمثّل شرطاً أساسياً للحصول على قروض أو مساعدات من جهات دوليّة أخرى. كما يمثّل البرنامج الضمانة للدائنين الأجانب قبل الدخول في مفاوضات لإعادة هيكلة سندات اليوروبوند التي يحملونها. لكن من جهة أخرى، بدأت الحكومة تكتشف صعوبة الدخول في هذا البرنامج اليوم، كون مصالح معظم أقطابها، التي تتشابك مع مصالح النافذين في القطاع المالي، تتضارب اليوم مع أبسط الشروط التي سيطلبها الصندوق خلال جولات المفاوضات المقبلة، وهذا ما تبيّن من توصيات لازارد وكليري غوتليب. وإذا كان وفد التفاوض اللبناني قد راهن على بعض الحيل للإلتفاف على شروط الصندوق، فجولة المحادثات الأولى مع الشركات الاستشارية أظهرت عقم هذه المحاولات.

لكل هذه الأسباب، يتوقّع كثيرون اليوم أن يدخل وفد الحكومة في جولة من المفاوضات التي لن تثمر عن أي تفاهم ملموس مع صندوق النقد الدولي في القريب العاجل، إلا إذا أفضت تطورات مفاجئة محليّة إلى انقلاب موقف وفد التفاوض اللبناني وتخليه عن المقاربات التي تفاهم عليها مع مصرف لبنان وجمعيّة المصارف، وهذا مستبعد جداً. ومع سقوط الرهان على نجاح المفاوضات مع صندوق النقد، ستكون الحكومة قد أطاحت بالدور الأساسي الذي يفترض أن تقوم به. ومع المأزق السياسي الذي وقعت فيه الحكومة خلال الأيام الماضية، بعد حصول الاستقطاب حول موضوع تحقيقات انفجار المرفأ، بات من الواضح أن الحكومة فقدت القدرة على المبادرة والقيادة تماماً، ليقتصر دورها على تمرير الأشهر الخمسة المقبلة بانتظار الانتخابات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها