الجمعة 2020/04/10

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

قبوُ الأسرار زمن الإنهيار

الجمعة 2020/04/10
قبوُ الأسرار زمن الإنهيار
لن يتفكك بازل الفساد الأوليغارشي من دون تغيير جذري في المنظومة السياسية الحاكمة (الأرشيف)
increase حجم الخط decrease

لفتني كلام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حين أبلغ قناة MTV عن ثروته قبل تسلمه مركزه. وتمنى على من وصفهم "في مواقع رسمية" أن يفعل ما فعله لإظهار ثرواتهم. ثم عاد واتّهم مؤسسة مالية موقعها ليون الفرنسية CRISTAL CREDIT GROUPE INTERNATIONAL بتزوير وثائق منذ 2016 "للنيل من مصرف لبنان والحاكم". ليس المهم ما قاله سلامة في صرف عن مضمونه. لكنه يطرح تساؤلًا عما إذا كانت الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد بلغت مرحلة تفكيك بازل الفساد المالي – السياسي، وكشف الأوراق وتبادل المسؤوليات. قرار مجلس الوزراء تكليف مؤسسة محاسبة لتدقيق حسابات مصرف لبنان مطلوب. "موقف التيّار الوطني الحرّ" ضد سلامة مشوب بخلفية سياسية.

ملف أميركي لسلامة!
سأل مسؤول وحدة مكافحة تبييض الأموال وأموال الإرهاب في وزارة الخزانة الأميركية مارشال بيلنغيسلي أحد المسؤولين اللبنانيين المعنيين: هل تردّ هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان لو سألنا عن رقم حساب يخص رياض سلامة؟ (الأخير رئيس الهيئة). لمجرد معرفة "المارشال الأميركي" صاحب رقم الحساب الذي أشار إليه، يعني إنه قادر على خرق السرية المصرفية اللبنانية. معلوماتنا أن المسؤول الأميركي نفسه سأل في مناسبة ثانية عن حسابات مصرفية خارجية لإحدى "المديرات الممتازة" في مصرف لبنان. وتماهيها مع حسابات أخرى خارجية لجهة ذات صلة. قد يُفاجأ كثيرون بتلك المعلومات المؤكدة التي نرويها، خصوصًا وأن سلامة محسوب على علاقة جيدة مع الأميركيين. لكنها إشارة إلى حجم توغل الخزانة الأميركية وأجهزتها في مفاصل متعدّدة من الدولة اللبنانية. خصوصًا في مجال المال والمصارف.


بعيدًا من صحة الاتهامات لسلامة من عدمها، ومن ردود الأخير عليها، نسوق ملحوظتين:

الأولى: اعتقادنا أن اليوم الذي سيتفكك فيه بازل الفساد الأوليغارشي، وتنكشف الحقائق بوضوح، لا يزال بعيدًا، من دون تغيير جذري في المنظومة السياسية الحاكمة. هل يمكن تخيل أن بلدًا حصل فيه ما حصل في لبنان من فساد واستباحة حقوق الدولة، وحبس ودائع الناس في المصارف، وصولًا إلى انهيار مالي، وإعسار دولة، ومصرف مركزي والمصارف، ولا يوجد واحد في السجن أو قيد التحقيق؟ لذلك، أن تبدأ المعركة على رياض سلامة ومن خلفية مشوبة بالغرضية السياسية فلن تجديَ نفعًا أو تصل إلى خواتيمها. الخبيء من المعلومات الذي في حوزة سلامة عن السياسيين وزعماء الأحزاب والطوائف كبير جدًا. فالرجل ممسك بقرار المال والنقد والمصارف ربع قرن من الزمن ويزيد. والمعلن أكثر من الخبيء. "لمّا رأيت القوم شدّوا رحالهمُ إلى بحرك الطامي فجئتُ بجرّتي". على ما قال الإعرابي الشاعر للخليفة. ليجمع سلامة تصريحات المسؤولين والنواب والوزراء، بالاطراء والمديح والتبجيل. ومواقف مشابهة لخبراء من أصحاب الألقاب السخيفة، وإعلاميين ووسائل إعلامهم، وكلهم أشادوا بـ"صاحب السعادة" وبسياسته وقدرته على اصطناع الأعاجيب. يكفي ذلك سلامة ملفًا في الاتهامات المشوبة بالسياسة. حتى الدائرة المقرّبة من رئيس الجمهورية ميشال عون تعجّ بمؤيدين لسلامة. بدليل أن الرئيس أعاد تعيينه مرةّ خامسة على التوالي. بينما من هم نائبوه الذين يوزع عليهم سلامة المسؤوليات، ورئيس وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف يتعذّر تعيينهم. هذه الخسارة الأولى لعون في منصب للطائفة المارونية في "أنطاكية وسائر المشرق"!


الثانية: في القانون والممارسات، لا يوجد أحد تحت الغربال. والقانون هنا يلعب دورًا مهمًا لمصلحة أي حاكم لمصرف لبنان. كتبنا يومًا أن قانون النقد والتسليف يحتاج إلى قدّيسين لتطبيقه، لما فيه من صلاحيات حصرًا بحاكم مصرف لبنان. هناك سلطة استنساب هائلة لا يمكن أن تودع فردًا بذاته. كل مقدرات البلد في يده. احتياط من الذهب والعملات. سلطة على المصارف. مؤسسات تابعة لا حصر لها. هل يوجد مصرف مركزي يملك شركة طيران؟ نعم في لبنان تملّك مصرف لبنان الناقل الوطني "ميدل إيست" استردادًا لديونه بعد أن باتت طاولة مجلس إدارة الشركة ملكًا له ضمانة للدين. نعم كانت شركة مفلسة. عيّن سلامة عليها أحد موظفي المصرف ونجح في انتشالها من جديد.


حاكم مصرف لبنان يحاسب على تصرفه واستقامته في استخدام صلاحياته. وعلى نزاهته وشفافيته. ويحاسب ثانيًا على سياساته ومدى صوابيتها ونجاحها في سلامة النقد وسلامة أوضاع القطاع المصرفي والاستقرار الاقتصادي. لا شيء لدينا من ذلك الآن. هل سلامة مسؤول عمًا حصل؟ قطعًا بلا لبس. ومهندس الانهيار مع صحبه الأوليغارشيين. لاسيما لناحية دين الدولة من مصرف لبنان بلا حساب. ومن المصارف. وهو يعلم قبل غيره أن الفوائد التي دفعت على الدين فترات الفوائد الصفرية في العالم كانت جريمة في حق الاقتصاد والعباد؟ ويسأل مرتزِقٍ أو جاهل "هل يترك حاكم مصرف لبنان الدولة تُفلس من دون أن يمدها بالمال"! يمدها لكن من حساباتها لديه. ويسلّفها في حالات استثنائية جدًا منصوص عنها في قانون النقد والتسليف. لنسلّم جدلًا إنه كان يوفر دينًا للدولة مخافة الإعسار. لماذا كان يخشى الشفافية والإفصاح عن مركز مصرف لبنان المالي. ولماذا علينا انتظار لازارد الاستشارية كي تؤكد أن الفجوة المالية في المصرف أكثر من 40 مليار دولار أميركي؟ ثم، هل اجتنبنا الانهيار أم ذهبنا إليه شاملًا في الدولة ومصرف لبنان والمصارف؟

القضاء مرجعًا
هنا دور القضاء لا الساسة، ليحقق بسياسات حاكم مصرف لبنان وغاياتها، وبشفافية استخدامه صلاحياته الاستنسابية الواسعة، وبمدى تقيده بالقانون، وبمسؤولية المصارف عن مصادرة الودائع وسوء الإدارة والائتمان. وبمسؤولية رياض سلامة مشرفًا. لذلك، إذا كان مطلوبًا بالفعل التوصل إلى نتيجة في ملفّ مصرف لبنان وسلامة، فلتصدر بمرسوم فورًا بلا تأخير ومسوغات التشكيلات القضائية كما وضعها مجلس القضاء الأعلى ومعها قانون استقلال القضاء. الناس ليسوا مستعدين بعد، لسماع أي مسؤول يتحدث عن محاربة الفساد والإصلاح، وعن المال المنهوب، بينما العمل في الفناء الخلفي على تعطيل التشكيلات القضائية ومسار القضاء وتنقيته وتفعيله.

مثل أحد المديرين في مصرف لبنان أمام قاضية واجهته بأسئلة محرجة في ملف مالي حسّاس. "كل شيء حصل بعلم الحاكم"، أجاب المستدعى وغادر. رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود خبير في القوانين المالية والنقدية وشؤون الإفلاس بالذات. مفتاح أسرار الانهيار في قبو مصرف لبنان. دعوا القضاء يتسلّم المفتاح ويحاسب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها