الإثنين 2020/09/07

آخر تحديث: 00:07 (بيروت)

لو أُحبط التدقيق الجنائي

الإثنين 2020/09/07
لو أُحبط التدقيق الجنائي
سيتراجع الدخل الفردي إلى الناتج أكثر من نصف ما كان عليه في 2018 (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

ما لم تستوعبه المنظومة السياسية بعد، العوامل الهيكلية التي تحول دون قدرة المنظومة على الإستمرار في حكم البلاد إلى أجل مفتوح. أهم تلك العوامل اثنان رئيسان. الأول، عجز المنظومة عن قيادة مرحلة إنقاذ البلاد من الإنهيار المالي والنقدي والاقتصادي. الثاني، تبعات الإنقاذ وتكلفته الفادحة على مستويات الفقر والبطالة والصحة والتعليم. وتحتاج هذه المرحلة إلى ثقة الشعب بالسلطة السياسية. ولا داعٍ للقول أنّ سلطة جديدة لا بدّ استيلادها كي تحوز الثقة. المنظومة الراهنة تجسيد فظيع للفساد والفشل وانعدام الثقة. هي صنعت الإنهيار.

على فرضية شروع لبنان في تنفيذ خطة اقتصادية بعيدة المدى للخروج من الأزمة الراهنة، فما ينتظر اللبنانيين في عقدين مقبلين مرير وقاسٍ. تُجمع تقديرات الخبراء والاقتصاديين الدوليين على أنّ لبنان يحتاج للوصول من جديد إلى ناتج محلي بواقع 59 مليار دولار أميركي كما كان عليه في 2018، إلى 23 سنة من اليوم. أي سنة 2043. التقديرات ذهبت إلى تراجع الناتج في 2020 بواقع يتجاوز 40 مليار دولار أميركي نتيجة نمو سالب فوق 20 في المئة. خلافًا لتقديرات سابقة لصندوق النقد الدولي بنحو 12 في المئة. لو ذهبنا إلى الدخل الفردي إلى الناتج، وهو أحد أهم المؤشرات الاقتصادية الدالّة، فقد استمرّ في السنوات الخمس التي سبقت 2018 عند حدود 11 ألف دولار أميركي للفرد. يمثل الرقم الدخل الفردي للشريحة العليا من البلدان المتوسطة الدخل بمعيار صندوق النقد الدولي (محتسبًا بقاعدة أطلس). لا نعرف تعداد اللبنانيين حاليًا والمقيمين. رئيس جمهورية لبنان لا يعرف. شأنه شأن مجلس النوّاب والحكومات. وفق التقديرات يراوح حاليًا بين خمسة ملايين وبين ستة حدًا أقصى. لاستعادة الناتج المحلي الإجمالي من نحو 56 مليار دولار أميركي أو 59 مليارًا بحسب الخبراء وصندوق النقد الدولي في 2043، وكما تلحظ خطة الحكومة المستقيلة، فسيتراجع الدخل الفردي إلى الناتج أكثر من نصف ما كان عليه في 2018. أي إلى نحو 5.5 آلاف دولار أميركي. هذا من دون احتساب الزيادة المفترضة في تعداد السكان.

23 سنة إلى الوراء!
أسوأ ما في هذا المشهد الكئيب المتوقع، ليس تراجع الأرقام المريع، المصحوب بتراجع مستوى معيشة اللبنانيين وازدياد الفقر والبطالة وحسب، بل وفي هوة القنوط المخيفة. كأن نقول للبنانيين أن عليكم أن تعملوا 23 سنة حتى 2043 كي تعودوا إلى مستوى ما كانت عليه دخولكم في 2018! بينما بمنطق الاقتصاد ونمو سنوي معقول بواقع 4 في المئة معدلًا وسطًا، كان يمكن الناتج المحلي الإجمالي أن يناهز في الحقبة 2018 – 2043 نحو 85 مليار دولار أميركي حدًا أدنى. والدخل الفردي إلى الناتج أكثر من 18 ألفًا. وكل ذلك وفق سيناريو أنّ في البلد المنكوب حكومة، ومجلس نوّاب، ورئيس جمهورية، وقضاء ومؤسسات تعمل. وأنّ الحكومة الجديدة ستجهَز على الفور لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والتوصل إلى اتفاق قرض. وبأمل أن تعبر جائحة كورونا بأقلّ المآسي الإنسانية الممكنة. وقد وضعت الجائحة العالم أمام خيارين لا يعرف التمييز بسهولة بين المرّ وبين الأمرّ. إمّا الإغلاق وقايةً لا بد منها في غياب اللقاح، مع كل النتائج الاقتصادية المدمّرة التي تحدّ في آن من القدرة على جبه الوباء، وإمّا التهاون مع الوباء ونتائجه الإنسانية. لبنان مع الخيار الثالث. فتح وإغلاق. وإغلاق وفتح خبط عشواء. دليل إضافي إلى اللّا قرار في دولة تتخبّط في فشلها. لو رحلت المنظومة السياسية الآن، فآثامها وجرائمها باقية عقودًا. لأنها أوليغارشية عتيقة، لا تأبه لهذا المشهد ومستمرّة كي تدافع عن نفسها في النهج نفسه.

كل يوم يمرّ قبل إنجاز اتفاق مع صندوق النقد الدولي يزداد المشهد اسودادًا. الحكومة لم تؤلّف بعد. المتمسكون بحقائب وزارية معينة فيها غنم المنافع وسوء الخدِمة العامّة هم أفسد ما في المنظومة الأوليغارشية. وأفشل وأحطّ أخلاقيًا. إستئخار رئيس الحكومة المكلّف مصطفى أديب إنجاز مهمّته والحصول على ثقة مجلس النوّاب في أيلول الجاري، قد يدفع بالمفاوضات مع الصندوق ربّما إلى 2021. وفي كل الأحوال فالإتفاق مع الصندوق ليس مرجحًا في 2020. خريطة الطريق التي وضعها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقراره بزيارة ثالثة إلى بيروت في كانون الأول، واستعداده لعقد مؤتمر ترعاه الأمم المتحدة لدعم لبنان ماليًا، تسريعٌ لخطوات عملية قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في 3 تشرين الثاني 2020. بحسب مصادر التقت مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر في زيارته الأخيرة إلى بيروت، أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا يعارض مبادرة الرئيس الفرنسي. فقط طلب تأليف حكومة من دون "حزب الله". لكنه لن يتوقف عند ذلك في حال تألّفت الحكومة وباشرت الإصلاحات. واستبعد أن تعرقل واشنطن اتفاق قرض لبنان مع صندوق النقد الدولي.

"نكاية بماكرون"..
بصرف الإعتبار عن المصالح الجيوسياسية الفرنسية في المنطقة ولبنان، فماكرون بات نافذة لبنان الوحيدة على الدول الأوروبية والصناعية، وصندوق النقد كلمة المرور إلى الدعم المالي قروضًا ميسّرة ومساعدات. يعوّل ماكرون جدّا على التدقيق الجنائي في مصرف لبنان. ذكره في كل المناسبات التي تحدّث فيها خلال زيارتيه. اللافت، أنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أبدى استعداده أكثر من مرة في غضون الأسبوعين الأخيرين على تدقيق يجريه مصرف فرنسا (المركزي) في حسابات مصرف لبنان. عِلمًا، أنّ هذه المهمّة لم يطرحها أحد سوى سلامة. صندوق النقد يعوّل كثيرًا على التدقيق الجنائي. لكن بعد توقيع وزير المال في حكومة تصرف الأعمال العقد مع شركة Alvarez Marsal برزت عقبات تبدو شكلية وغير منطقية تتعلّق بمهمّة الشركة قبل المباشرة بعملها. كمثل إدخال مجموعة Egmont التي لا علاقة لها بهكذا أعمال وتضم أكثر من 154 دولة وصلتها مع هيئات مكافحة تبييض الأموال وأموال الإرهاب. بالإضافة إلى حجج أخرى. لتأكيد المؤكّد، هذه المنظومة الأوليغارشية الحاكمة لن تنجز أي تدقيق جنائي حقيقي في مصرف لبنان يطالها مباشرة. كتبنا في "المدن" عن هذا القبو قبل سنوات يوم كان استقرار سعر الصرف نشيدًا وطنيًا. فـ"ظنوا القلوبَ تواليهم وغرّهمُ رضا الذليلِ وقولُ الزورِ والملقِ" على ما قال الشاعر.

أن يبدأ التدقيق الجنائي بمصرف لبنان، فحيث يجب أن يبدأ. أن يتعثّر هناك، فلن ينتقل إلى أي مؤسسة أخرى. لا إلى الكهرباء، ولا إلى النفط والمحروقات ولا إلى مكان آخر. و"نكاية بماكرون"!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب