السبت 2020/02/22

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

سرّ الأسرار: المعلومات المالية يخفيها مصرف لبنان عن الدولة

السبت 2020/02/22
سرّ الأسرار: المعلومات المالية يخفيها مصرف لبنان عن الدولة
أين يوظّف مصرف لبنان باقي الاحتياطي؟ (المدن)
increase حجم الخط decrease

لم يكشف رئيس الجمهوريّة سرّاً حين قال إن هناك معلومات "لا نزال بحاجة إليها تتعلّق بالوضع المصرفي". مع العلم أن عبارة الوضع المصرفي تحديداً، تشمل بطبيعة الحال كل من المصارف التجاريّة ومصرف لبنان. فاللبنانيّون اعتادوا منذ زمن على عدم إفصاح المصارف التجاريّة ومصرف لبنان عن كثير المعلومات التي تتعلّق بالوضع المالي، والتي لا يمكن من دونها تقييم الوضع المصرفي بشكل سليم. في الواقع، تبيّن اليوم أن هذا النقص ساهم إلى حد كبير في تأخير الكشف عن خطورة الوضع أمام الرأي العام. خصوصاً، أن جزءاً كبيراً منها تعلّق تحديداً بعوارض أزمة السيولة بالعملة صعبة.

ثمّة ما هو أكثر خطورة هنا، ففي التدقيق في الميزانيّات، يتبيّن أن نوع المعلومات ذاته كان مفقوداً في ميزانيّات كل من مصرف لبنان والمصارف اللبنانيّة. وهو ما يعني أن هذا النقصان في المعطيات لم يكن عبثيّاً أو غير مقصود. أزمة الشفافيّة في ما يتعلّق بالمعطيات الماليّة مستمرّة حتّى الآن، لكن الإشكاليّة الأساسيّة تكمن الآن في أن الدولة تتخذ قرارات مصيريّة، مثل إمكانيّة دفع سندات اليوروبوند أو التخلّف عنها، بينما لا يملك أصحاب القرار في السلطة الكثير من المعلومات الضروريّة لدراسة هذا النوع من القرارات.

التزامات مصرف لبنان بالعملة الأجنبيّة
حسب ميزانيّة مصرف لبنان حتّى نهاية السنة الماضية، بلغت قيمة إحتياطي العملات الأجنبيّة الموجود بحوزة المصرف حدود الـ29.55 مليار دولار أميركي. وهو الرقم الذي يشير إليه دائماً الحاكم والخبراء الاقتصاديين، عند الحديث عن الهامش المتوفّر لدى المصرف المركزي للتدخّل، وتوفير العملة الصعبة في الأسواق. ما لا يتم الإشارة إليه هنا هو حقيقة أن هذا الرقم يمثّل ما تبقّى من السيولة بالعملة الأجنبيّة، التي قامت المصارف بتوظيفها لدى المصرف المركزي، من أموال المودعين. وبالتالي، فتقييم هذا الرقم يجب أن ينطلق أوّلاً من مقارنته بقيمة الإلتزامات المتوجّبة على مصرف لبنان بالعملة الأجنبيّة تحديداً. خصوصاً، أن جزءاً كبيراً من أزمة السيولة والودائع بالعملة الصعبة، القائمة اليوم، يتعلّق تحديداً بحجم أموال المودعين بالدولار، التي وظّفتها المصارف عبر تسليف الدولة ومصرف لبنان، مقارنةً بما تبقّى من هذه السيولة لدى المصرف المركزي.

عمليّاً، تمثّل هذه المعلومة الحلقة المفقودة تماماً في ميزانيّات المصرف المركزي. يرد في تلك الميزانيّات حجم الإحتياطي الموفّر بالعملات الأجنبيّة من ناحية الموجودات، من دون أن يقابله أي تفنيد لحجم الإلتزامات المترتبة لصالح المصارف التجاريّة بالعملة الأجنبيّة تحديداً. وهكذا، تخلط الميزانيّات الإلتزامات هذه بالليرة مع الإلتزامات بالدولار وسائر العملات الأجنبيّة، وهو ما يمنع الجميع من معرفة وضعيّة مصرف لبنان، من ناحية الفارق بين إلتزاماته وموجوداته بالدولار الأميركي.

المسألة الملفتة للنظر هنا، هو إخفاء الميزانيّات المجمّعة للمصارف التجاريّة لنوع المعلومة ذاتها، من جهتها. فبينما تميّز هذه الميزانيّة بين قيمة الودائع المترتبة عليها بالليرة مقابل قيمة الودائع المترتبة عليها بالدولار، تمتنع هذه المصارف عن التمييز بين توظيفاتها لدى مصرف لبنان من جهة العملة. وهكذا، حتّى لو أراد الباحث التوجّه إلى ميزانيات المصارف التجاريّة لتقدير إلتزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة مقابل موجوداته بهذه العملات، سيتعذّر هذا الأمر.

أزمة السيولة التي يتم إخفائها
الفارق بين الإلتزامات والموجودات بالعملة الصعبة، والذي تم إخفاؤه بحسب الميزانيّات المنشورة من مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، هو ما يسمّى ماليّاً بالإحتياطي الصافي، وهو الرقم الذي ينبغي النظر إليه عند تقييم الإحتياطات المتوفّرة، والتي يتحدّث عنها الحاكم دائماً. فإذا كانت الإلتزامات تفوق الموجودات بالعملات الصعبة بكميات كبيرة، فذلك سيعني ببساطة أن مصرف لبنان استخدم جزءاً كبيراً من سيولة المصارف التي تم توظيفها لديه بالدولار من أموال المودعين، لتثبيت سعر الصرف، وهو ما يشرح جزءاً كبيراً من أزمة السيولة القائمة.

وكالة فيتش قامت بتقديرات منذ أشهر لمحاولة تحديد هذا الرقم وتقدير الوضع، فقدّرت إلتزامات مصرف لبنان بالعملة الأجنبيّة بحدود الـ62 مليار دولار، مقابل إحتياطي متبقي بالعملات الأجنبيّة بلغ في ذلك الوقت حدود الـ29.8 مليار دولار. ما يعني أن الإحتياطي الصافي بلغ مستويات سلبيّة تقدّر بـ32.2 مليار دولار. كان هذا الواقع –الذي تخفيه الميزانيّات- سبباً رئيسيّاً لتخفيض الوكالة التصنيف الائتماني للبنان. فالوكالة اعتبرت أن هذا الإحتياطي السلبي سيشكّل عامل ضاغط على السيولة، في حال تسارع الطلب على السيولة بالعملات الأجنبيّة، نتيجة تدهور ثقة المودعين، وهو ما حدث بالضبط بعد أشهر.

في كل الحالات، تختلف التقديرات المتعلّقة بوضعيّة الإحتياطي الصافي لدى مصرف لبنان. وما ذكرته وكالة فيتش مجرّد تقدير قامت به من جهتها، من دون وجود معلومات رسميّة مفصح عنها في الميزانيّات. لكنّ ذكر وكالة فيتش لهذه المسألة تحديداً منذ أشهر، وتحقّق السيناريو الذي تحدّثت عنه، يعني ببساطة أن هذه المعلومة كانت إحدى عوارض الانهيار التي كان ينبغي التعامل معها منذ سنوات طويلة، بينما كانت الميزانيّات المصرّح عنها تتفادى إعطاء أي أرقام تدل عليها.

هل الإحتياطي متوفّر فعلاً؟
ثمّة مسألة أخرى ينبغي الإلتفات إليها هنا. فالأرقام التي تقول بوجود 29.55 مليار دولار كإحتياطي عملات صعبة، تفترض أن هذا المبلغ موجود كموجودات سائلة أو قابلة للتسييل عند الحاجة. لكنّ البحث الإضافي يبيّن أنّ المسألة ليست بهذه البساطة. وثمّة أمور لا يتم الإشارة إليها بشفافيّة عند التعاطي مع الرأي العام.

فمصرف لبنان يعمد منذ 2017 إلى تضمين الإحتياطي الذي يشير إليه في الميزانيّات مبالغ تمثّل قيمة سندات اليوروبوند الموجودة بحوزته. بمعنى آخر، يشمل الإحتياطي هذا أموالاً مترتبة على الدولة اللبنانيّة لصالح مصرف لبنان بالدولار الأميركي. وآخر التقديرات تقدّر قيمة هذه السندات بحوالى الـ5.7 مليار دولار.

المشكلة هنا تحديداً تكمن في أن هذه السندات لا تمثّل أموالاً سائلة، ولا تمثّل موجودات قابلة للتسييل عند الحاجة. وحتّى لو أراد مصرف لبنان بيعها اليوم، فسيكون ذلك متعذّراً، إلا إذا قام ببيعها لأطراف أجنبيّة بأثمان بخسة جدّاً، تحمّله خسائر غير منطقيّة. ومن المعروف أيضاً أن الدولة اليوم غير قادرة على سداد قيمة هذه السندات، إذا أراد مصرف لبنان انتظار استحقاقها. ببساطة، جزء من هذا الإحتياطي الذي يشير إليه مصرف لبنان لا يمثّل إحتياطات فعليّة، بل موجودات سيعاني في سبيل تحصيل قيمتها مستقبلاً.

وهنا ينبغي السؤال عن وجهة توظيف مصرف لبنان لباقي عناصر الاحتياطي هذا. فوجود سندات اليوروبوند ضمن ما يقول عنه مصرف لبنان أنّه احتياطي، يطرح الشك بطبيعة الحال بباقي التوظيفات التي يشملها هذا التصنيف. أين يوظّف مصرف لبنان هذا الاحتياطي؟ الجواب متعذّر حاليّاً.

أزمة معلومات
كما أصبح واضحاً للجميع، يتركز جزء من الانهيار المالي في وجود قاعدة ودائع ضخمة بالدولار الأميركي قامت المصارف بتوظيف الجزء الأكبر منها في سندات اليوروبوند ومصرف لبنان، وهو ما أدّى اليوم إلى أزمة المصارف مع المودعين. فكيف نعرف حجم الأزمة ونعالجها من دون أن نعرف بالضبط قيمة الموجودات المصرفيّة بالدولار التي تم توظيفها لدى مصرف لبنان؟ ومن ناحية أخرى، كيف ستقيّم السلطة طريقة التعاطي مع استحقاقات اليوروبوند، وكفاية الإحتياطي المتوفّر، إذا نفّذت ما يريده الحاكم من سداد لهذه السندات، من دون أن نعلم حجم انكشاف المصرف المركزي على إلتزامات بالدولار مقابل هذا الإحتياطي؟

وهكذا، لا يمكن الإنطلاق نحو أي معالجة من دون أن نبدأ أوّلاً بعرض كل المعلومات المتوفّرة أمام المعنيين والرأي العام، لتقدير نوعيّة المشاكل المطروحة، وأثر كل خيار على الوضع المالي في البلاد. ثمّة انتقادات كثيرة تم توجيهها لمصرف لبنان في الماضي، على خلفيّة التعتيم على جزء من المعلومات المتعلّقة بالقطاع المالي تحديداً، ولم تحظَ أي من هذه الانتقادات بالاهتمام الرسمي اللازم. لكنّ مصرف لبنان مطالب اليوم أكثر من أي وقت بكشف جميع الأوراق والأرقام أمام الجميع. ومن المفترض أن تكون هذه المسألة بالذات مطلب كل من يريد التفكير بالبدائل المطروحة في ظل الانهيار، وبالأخص الشارع المنتفض على سياسات المصرف المركزي والسلطة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها