الجمعة 2019/05/03

آخر تحديث: 01:26 (بيروت)

"المسار الفارسي" و"الشيطان الأكبر"

الجمعة 2019/05/03
"المسار الفارسي" و"الشيطان الأكبر"
تعاني إيران كساداً وليس ركوداً وحسب (Getty)
increase حجم الخط decrease

كيف ستتعامل طهران مع الحظر الأميركي على تصدير نفطها الإيراني إلى حد الصفر، الذي بدأ في أيار 2019؟ هل تصل ردود الفعل إلى منعطف الحرب الساخنة على منابع النفط والغاز في المنطقة، ومنافذ عبور إمداداتهما لاسيما عبر مضيق هرمز؟ وهل تعتبر طهران العقوبات الاقتصادية الأميركية كناية عن حرب بوسائل اقتصادية تدفعها إلى استخدام حقها بالدفاع عن النفس بالوسائل المتاحة لديها؟

إلى مستوى الحرب
في صرف النظر عن دعاوى واشنطن حيال ما تصفه "سياسات طهران التخريبية في المنطقة"، وإصرارها على جبه تلك السياسات بسلاح لا تملكه طهران للردّ بالمثل، لنا أن نعتبر أن الآثار الفادحة التي خلفتها العقوبات الاقتصادية على المجتمع الإيراني، وعلى الدولة وكياناتها ومواردها، ترقى إلى الحرب الحقيقية. لو استثنينا الضحايا البشرية لأي حرب، فقد تجاوزت آثار العقوبات الاقتصادية على إيران ما يمكن أن تخلفه الحرب بالوسائل العسكرية. تكلفة إزالة آثار العدوان بصرف النظر عن نتائجه، متاحة في دولة كإيران تتمتع بموارد طبيعية وبشرية وبقدرات صناعية. وفي وسعها الدفاع عن نفسها بوسائل عسكرية تعتًد طهران بامتلاكها. لاسيما الصواريخ الباليستية قضية خلاف أساسية مع واشنطن.

بيد أن المشكلة الرئيسية التي تعاني طهران في هذه المواجهة من شأنين جوهريين. الأول، أنها لا تملك وسائل الحرب الاقتصادية والمالية لترد بالسلاح نفسه. والثاني، أن ما تملكه فعلاً من أسلحة عسكرية لا تتمكن نظرياً حداً أدنى، من تفعيله واستخدامه ضد الولايات المتحدة. ثمة سلاح آخر ذو تأثير قوي في المجتمع الإيراني تستخدمه الولايات المتحدة، وهو البث التلفزيوني باللغة الفارسية لضخّ معلومات للشعب الإيراني عمّا يحصل في الداخل ومحجوبة عنه في الوسائل الإعلامية الحكومية وتلك القريبة من الدولة. وأحياناً كثيرة لضخّ تقارير لا تخلو من الكذب والتدليس لتعبئة المواطنين ضد النظام. وكانت الولايات المتحدة وألمانيا ودول أخرى في حلف الناتو، قد استخدمت السلاح نفسه إبّان الحرب الباردة مع الإتحاد السوفياتي ودول حلف وارسو. وكان الجمهور يتلهّف لالتقاطها كلّما ازدادت وسائل التشويش المضادة على تلك الوسائل من جانب الحكومات المعنية، وكلّما ضيقت تلك الحكومات الحمقى الحرية على مواطنيها. ويعد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الآن بشمول البثّ باللغة الفارسية وسائل إذاعية ومواقع التواصل الإجتماعي.

ضيق هامش المناورة
نعم، وصلت العقوبات إلى حد الحرب الحقيقية على إيران. منعها من استغلال مواردها الطبيعية وتصديرها. الحدّ من قدرتها على ولوج الأسواق التجارية الدولية الرئيسية لاستيراد حاجاتها. إقصاؤها عن منظومة المال والمصارف. الحؤول بينها وبين الاستثمارات الأجنبية. وقد بلغ حد وضع عراقيل في وجه الاستثمارات الوطنية من خلال الحظر المفروض على استيراد التِقانة ومدخلات الصناعات التحويلية.

اعترف الرئيس الإيراني حسن روحاني، بأن بلاده تواجه وضعاً اقتصاديا هو الأصعب منذ قيام الجمهورية الإسلامية. كان ذلك قبل تصفير الصادرات بعد انتهاء 180 يوماً فترة حددتها واشنطن في تشرين الثاني 2018 للدول المستوردة نفطاً إيرانياً. من المؤكد أن هامش المناورة المتاح لطهران للنفاذ من العقوبات الجديدة بما تيسر، سيكون أضيق بكثير من السابق. فمصرف الشعب الصيني (المركزي)  وضع إيران في رأس لائحة الدول ذوات المخاطر العالية. والصين مستورد النفط الإيراني الأول في العالم. وخفضّت شركة سيبنوك الصينية مستورداتها على نحو كبير. بينما فشلت مساعي الهند المستورد الثاني لحمل واشنطن على تمديد فترة السماح لاستيراد النفط الإيراني. وحذّرتها من فقدانها الأفضلية التجارية التي تتمتع بها مع الولايات المتحدة إن هي قررت تجاوز العقوبات.

لكن الأهّم، فشل الإتحاد الأوروبي في التوصل إلى آلية خاصةSpecial Purpose Vehicle (SPV)  بالإتحاد لإنشاء قناة مالية مصرفية تتيح عدم خسارتها السوق الإيرانية. وتلقّى وزراء خارجية الإتحاد الأوروبي رسائل تهديد صريحة من الإدارة الأميركية بالعزوف عن بناء الآلية. وباشرت طهران بناء على طلب بروكسل الإعداد لجهاز حكومي للتنسيق مع الآلية التي لم تر النور. وكانت تعوّل على النفاذ من اتساع فجوة الخلافات بين إدارة ترمب وبين الإتحاد الأوروبي التي بلغت شؤوناً استراتيجية تتعلق بالتجارة الحرة والأمن وخلافهما. وفي كل الأحوال، بلغت الأزمة الاقتصادية والإجتماعية في إيران مرحلة سيئة جداً. موافقة الدول النفطية العربية على تغطية أي نقص في الأسواق ينجم عن شحّ الصادرات الإيرانية، بناء على طلب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، شكّل استفزازاً لطهران. وراح الحرس الثوري يهدد تارة بإغلاق ممر هرمز لتصدير نفط "مسموح لغيرنا وممنوع علينا"، وطوراً لو مُنعت إيران من استخدامه. ما يراكم استفزاز طهران، إنه كلّما تصعّد الخلاف معها، كلّما ارتفعت أسعار النفط وضاقت بها السبل للإفادة من تصديره.

الجيران العرب
تحتاج اليوم إيران إلى موارد مالية هائلة للنهوض بالاقتصاد والنقد والشؤون الاجتماعية، ولجم التضخم المرتفع وتأمين برامج الرعاية. تعاني كساداً وليس ركوداً وحسب. طهران معتدى عليها بالقوانين الأميركية. ترمب يريدها قوانين أممية لتحقيق أهداف سياسية. لكن ماذا تريد طهران من المنطقة؟ التصريح الأخير لمساعد القائد العام للجيش الإيراني للشؤون التنسيقية العميد حبيب الله سياري، أبلغ وكالة الأنباء الإيرانية أن "الخليج الفارسي سيبقى فارسياً ونمرّغ أنف الأعداء. وكلّما تمتعت دولة بمكانة أكبر كلّما شعر شعبها بمزيد من الفخر والاقتدار" على ما قال. و"الشيطان الأكبر" المعتدي بصلف على طهران يقر بفارسية الخليج. ولا يضيره أبداً سلخه عن محيطه الجغرافي العربي. السياري يقصد جيرانه العرب. هل هذه السياسة الفضلى البديلة من سياسة الوئام في منطقة تطفو على الموارد والإمكانات وقادرة على العيش بسلام؟ هل يقتضي خروج إيران من أزمتها الاقتصادية واسترداد حقها الطبيعي باستغلال مواردها، وخروج الشعب الإيراني من ضائقته المعيشية، تسعير العداء المذهبي (والردّ بمثله) وتوسيع الشقاق إلى حد الصدام وزرع الفرقة؟

إيران أذكى من أن تغامر على سطح مضيق هرمز، تعبره 40 في المئة من إمدادات النفط العالمية المنقولة بحراً. ولا تريد التنازل عن إنفاق أموالها في المشاريع السياسية الإقليمية. نحاول أن نجتهد. هل تنسحب إيران من الاتفاق النووي طالما انسحبت منه الولايات المتحدة، وأعادت تصعيد العقوبات الاقتصادية خلافاً للاتفاق، ولم يتمكن الأوروبيون من حمايته؟ سيعني ذلك إنها ستتابع برنامج التخصيب النووي. سيتهمها كل الغرب وغيره ربما، إنها في طريقها إلى السلاح النووي. لا توجد هنا منزلة بين منزلتين. إما التفاوض من موقع القوة كما يفعل الكوري الشمالي. وإما التفاوض مع "الشيطان الأكبر" بعد تقديم تنازلات سياسية. وبعد ذلك؟!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها