الإثنين 2019/01/14

آخر تحديث: 00:07 (بيروت)

دولةٌ هشّة وأزمةٌ عميقة

الإثنين 2019/01/14
دولةٌ هشّة وأزمةٌ عميقة
الإرباك الذي وقع فيه وزير المال عن إعادة هيكلة الدين العام وإعادة الجدولة، كانت تكلفته باهظة (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

هل حقّاً فوجئ لبنان وحكومته بتقرير غولدمان ساكس، كما نقلته وكالة بلومبرغ بعنوان "هل يضطر لبنان إلى إعادة هيكلة ديونه"؟ بالعقل والمنطق، والسياسات الحكومية المالية والاقتصادية، وبالعداء لأي إصلاح منذ عقود، ما كان علينا سوى انتظار ذلك. بالفراغ المؤسسي، والنظام الطائفي لا الديموقراطي ولا البرلماني كما يقول الدستور، كان علينا أن ننتظر الأسوأ. الديموقراطي والبرلماني يعنيان حكماً وحكومة من جهة، ومعارضة من جهة ثانية. لا شيء من ذلك عندنا. هكذا فسّر النظام ميثاق العيش المشترك، والميثاقية، والتوافق الوطني. إلى آخر الكلمات المتقاطعة لهذه البلية. بات الوطن والشعب أشبه ببناية وسكان وبلا ناطور. يتناحر سدنته على استحصاص كل شيء. غشت أبصارهم و"لا يعفّون عند المغنم". نظام معاند للإصلاح حرون. يمعن في انهيار الدولة ومهانة المواطن.

ضيق الخيارات
غولدمان ساكس كغيرها من المصارف الاستثمارية الدولية، المتحكمة في الأسواق المالية ومحافظها، يهمها عملاءها من حملة سندات الدين اللبنانية في الأسواق الخارجية. ما سألَته عن إعادة هيكلة الدين اللبناني إنما لتطمئِن عملاءها. وفي اليونان كان لها حصة بتدليس الحسابات الحكومية. ولا تتورع عن مزيد في دول أخرى. لكن ذلك لا يستقدم أزمة ولا يستأخر. يبقى السؤال: من يحرص على لبنان ويقيه الانهيار؟ هذا الذي يريده المواطن من زمان. الجواب تأكيداً ليس عند "حصان طروادة التشاوري" ومن يشد أزره. الإرباك الذي وقع فيه وزير المال علي حسن خليل، في أكثر من تصريح تواليا،ً عن إعادة هيكلة الدين العام وإعادة الجدولة، وكانت تكلفته باهظة على الدين والثقة بالأوراق الحكومية اللبنانية في الخارج، وتكلفة مماثلة على تدخل مصرف لبنان لاستجابة الطلب على الدولار الأميركي، كان كتقرير غولدمان ساكس، نتيجة وليس سبباً. لو كان لدينا حكومة ومؤسسات تعمل، كان على مجلس الوزراء أن يتخذ موقفاً من التقرير وقراراً.

رغم ضيق الخيارات المتاحة، في المجال المذكور، من خارج الخيار السياسي الأوحد. إعلان انقلاب شامل على كل السياسات المالية والنقدية والاقتصادية، التي نهجها الحكم، للبدء بإصلاحات مالية وإدارية. يسبقها تأليف حكومة على الفور، بالتوافق بين الرئيس المكلف سعد الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون، والذهاب بها مع البيان الوزاري إلى مجلس النواب. وإعلان إجراءات طارئة على الصعيد المالي تبدأ بالكهرباء وجباية الضريبة والجمارك ومرفأ بيروت. هل يطلق النظام الأوليغارشي النار على نفسه؟

أسوأ من اليونان!
اللغط القائم بين إعادة جدولة الدين العام وإعادة الهيكلة دونكيشوطي، ونراه في المعارك السياسية قنابل دخانية للتعمية عمًا نعتبره الفيصل في قضية الدين العام. وهو من أركان ثلاثة. الأول إن بلداً هشاً بلا حكومة وقادرة على التصدي لآفة الدين والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لا يمكنه إعادة الجدولة ولا إعادة الهيكلة. نحن دولة بلا عمق مؤسسي الآن. وأزمة الدين عميقة وصلبة. في أزمة اليونان تألفت حكومات ثلاث في أقل من شهور ثلاثة. في الأرجنتين كذلك. ثانياً، هناك طرف أو أطراف، ستتحمل نتائج إعادة الجدولة وإعادة الهيكلة. غير ذلك بلا طائل. ثالثاً، لا يستسهلنّ أحد تحميل المواطن نتائج تقشف كإجراء لا مهرب منه ومقبلون عليه. اللبناني تقشف بالضرورة وانتهُكت قدراته على تلبية أود يومه.

كتبنا مرةً أن أزمة دين لبنان أسوأ من أزمة اليونان. والفرق كبير بين إعادة الجدولة وإعادة الهيكلة. أكثر من 90 في المئة من الدين العام داخلي. إعادة الجدولة باتفاق رضائي بين الدولة وبين المصارف كناية عن تعديل في آجال استحقاقات الدين و/ أو فوائده، وتمديد السداد. ولأن "القسري" هو سمة أي جدولة، عندما تكون الدولة هي المدين، فلا بدّ من تعديلات تصيب بنية الفوائد الدائنة والمدينة. الدولة صادرت ودائع اللبنانيين، لتمويل العجز والإهدار والزبائنية. هي التي تتحمل المسؤولية، بالاتفاق مع المصارف، طالما التزمت الأخيرة سداد المودعين أصلاً وفائدة. سنقولها صراحة. نحو 80 في المئة من الودائع يحوزها أقل من 10 في المئة من المودعين. والعكس صحيح، نحو 90 في المئة من المودعين يحوزون 20 في المئة من الودائع، مع احتمال السهو والخطأ بأعشار الواحد في المئة. فالأرقام من أسرار الدولة الخبيئة، ولجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان. بالتأكيد الأوليغارشيا، وسدنة النظام و"ميثاق العيش المشترك والدستور المنتهَك وأبو رخوصة"، هم من شريحة المودعين العليا. هناك مطارح المال. وليتحمل الكل بمقدار ما يحمل، حتى يأتي وقت استعادة الأموال المنهوبة، شعاراً يحمله اليوم شباب لبنان وشاباته، في الشوارع والمدارس والجامعات.

نتائج مدمِّرة
أما إعادة الهيكلة فأمر مختلف، ويعني استقطاع جزء كبير من أصل الدين للبنانيين وتجميد الفوائد. ويستحيل هذا الاجراء في ديون داخلية من دون نتائج مدمرة مالياً واقتصادياً واجتماعياً. لذلك فديننا ليس في نادي باريس. ولا تنطبق عليه اتفاقيات هيوستون ونابولي وخطة برادي وسواها. ولم تحصل أصلاً عملية إعادة هيكلة لديون الدول من خارج المصالح الجيوسياسية للدول الصناعية. حتى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية التي شطب نحو 75 في المئة من ديونها، إنما حصلت عليه مخافة ارتمائها في حضن الاتحاد السوفياتي، وقت انتعشت فيه الحركات اليسارية والنقابات العمالية فيها بعد الحرب. بولندا أعفيت في 1991 من نحو 60 في المئة من ديونها بإرادة أميركية وأوروبية، لمساعدة حركة "تضامن" وليخ فاونسا، وترسيخ سلطته رئيساً للجمهورية بعد انهيار النظام الشيوعي. إيسلندا كانت مرتعاً للفساد وبلغ حجم مصارفها عشرة أضعاف الناتج المحلي. وحين رفضت الدولة سداد ديونها لمصارف أوروبية تكفلت فرنسا وألمانيا وهولندا بسدادها لدعم النظام في الخروج من أزمة سياسية. اليونان تكفلتها ترويكا المفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، لأسباب تتعلق بمصالح استراتيجية للاتحاد الأوروبي.

لكن ماذا عن نحو 9 مليارات دولار أميركي ديناً سيادياً في أوراق اليوروبوندز اللبنانية، يحملها أجانب وليس لبنانيين؟ لا تقل أهمية عن الدين الداخلي، والنكول بها دونه تبعات خطرة، في بلد لديه موجودات خارجية، ونحو ثلث ذهبه في قبو مجلس الاحتياط الفدرالي في نيويورك. نكتفي بهذه الاشارة لـ"اللبيب الذي لن يفهم"!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها