الإثنين 2018/05/28

آخر تحديث: 05:36 (بيروت)

القوة الناعمة والقوة الصارمة

الإثنين 2018/05/28
القوة الناعمة والقوة الصارمة
ايران تتنكر لقوتي ترامب الناعمة والصارمة (Getty)
increase حجم الخط decrease

نفى وزير خارجية ايران محمد جواد ظريف أن يكون الاتحاد الاوروبي في لجنة التفاوض المشتركة على مرحلة ما بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عرض على طهران التفاوض على قدراتها الصاروخية ونفوذها الإقليمي. وصف الأمر "مجرد أكاذيب". بينما نفى ناطق باسم الاتحاد الاوروبي بعد اجتماع اللجنة في فيينا الجمعة ( 25-5-2018) استعداد الاتحاد لضمان المصالح الاقتصادية الايرانية كما ترغب طهران. وزراء خارجية الاتحاد الذين سيجتمعون الإثنين (28-5-2018) في بروكسل سيناقشون الضرر الذي ترتب على المصالح الاقتصادية الاوروبية نتيجة الانسحاب الاميركي من الاتفاق. لو قرر الاجتماع التصعيد في وجه الولايات المتحدة على قاعدة حماية المصالح الاوروبية، يبقى السبيل الوحيد المتاح للحد من أثر العقوبات الاميركية على طهران. وفي اعتقادنا أن ذلك احتمال ضعيف. من شأنه إحداث خلل كبير في النظام السياسي والاقتصادي والأمني الدولي، يتجاوز الاتفاق النووي والعقوبات على ايران. وربما احتاج الأمر إلى تعديلات في التشريعات الاوروبية لإلزام شركات القطاع الخاص الاوروبي تجاهل العقوبات الاميركية على ايران.

في شباط 2018، أي قبل خروج الولايات المتحدة من الاتفاق، توقفت طائرة وزير الخارجية الايراني في مطار فرنكفورت طلباً للوقود. رفضت شركات النفط وفيها أسهم اميركية الامتثال. حصل اتصال مباشر بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي أوعزت الى سلاح الجو الألماني القيام بالمهمة. إنها القوة الناعمة يستخدمها الرئيس الاميركي دونالد ترامب من خلال العقوبات الاقتصادية على ايران. القوة الناعمة لا تخيف ما لم تكن مبنية على القوة الصارمة. والقوة الناعمة تستخدم أيضاً بين الحلفاء والأقوياء. القوة المكافئة تظهر أحياناً بامتلاك الطرفين أو أحدهما عناصر القوة من خارج القوة العسكرية. اقتصاداً ومالاً وتجارة وتكنولوجيا وموارد بشرية وطبيعية استراتيجية وخلافها. فكيف الحال مع من يملك عناصر القوة تلك مجتمعة؟

هذه حال اميركا ترامب مع حلفائها الأوروبيين. فرادتها في امتلاك القوتين الصارمة والناعمة كماً ونوعاً، تجعل قوتها الناعمة قوة صارمة. تضع خصومها في أحسن الأحوال أمام خيارات صعبة إذ يحاولون تغليب مصطلحاتهم الأيديولوجية وتنفيذ سياساتهم كما يحلو لهم. هذا ما يمكن قراءته في النزاع بين الولايات المتحدة وبين ايران على خلفية الاتفاق النووي. أما الأقوياء والحلفاء الذين تمارس القوة الناعمة ضدهم فيواجهون بدورهم خيارات صعبة للاحتفاظ بمصالح استراتيجية في العلاقة مع الحليف القوي. تعلم أوروبا التي تمتلك كثيراً من عناصر القوة، أن قوتها ليس مكافئة لتقول لا للولايات المتحدة. ينسحب الأمر نسبياً على روسيا والصين واليابان. فمصالحها الاقتصادية الهائلة مع الولايات المتحدة، وشراكتها مع الأخيرة في منظومة الحلف الاطلسي، والتعاون المشترك في عالم البحوث العلمية والابتكارات وفي مشاريع الأمن الدولي، أمور تفرض على أوروبا سباقاً غير متكافئ لن تبلغ فيه خط النهاية قبل الاميركي.

الأمر الآخر المهم الذي يفترض أن يكون في حسابات اوروبا، هو المؤسسات التي بنيت على العولمة في التجارة والمال والصناعة المصرفية والخدمات والاستثمار وانتقال الأفراد وغيرها. وقد استغرقت اوروبا نحو عقود أربعة منذ 1982 مع مرغريت تاتشر ورونالد ريغان لتكييف قوانينها ولوائحها التنظيمية مع العولمة ومؤسساتها. والحق يقال إن اوروبا بذلت كثيراً من الجهد والاعفاءات المالية وفترات السماح كي تأتلف دول الاتحاد الاوروبي نفسها في تلك المؤسسات لا سيما منظمة التجارة العالمية. وكي تكتسب عضوية في الاتحاد الاوروبي. ولا جدال في أن مصالح اوروبا والولايات المتحدة الاقتصادية والاستراتيجية كانت تقتضي ذلك. قدرة الطرفين الانتاجية تكفي لما يفيض عن حاجة استهلاك العالم من السلع والخدمات. لكن الأسواق تبقى السؤال التحدي في ائتلاف الانتاج والمنافع الاقتصادية لتفعيل الابتكارات والموارد البشرية الهائلة المتاحة للطرفين. واوروبا ليست مستعدة للتضحية بتلك المصالح. وهي بوابة النفوذ السياسي العالمي والسيطرة على القرارات الدولية.

يبقى السؤال: لماذا لا تقيم الولايات المتحدة وزناً لمصالحها الأوسع في المنظمة الدولية ومؤسساتها الاقتصادية على غرار ما تبدي اوروبا؟

مجيء ترامب قلب كثيراً من المعادلات. لا يستهدف اوروبا بذاتها كما هي الحال في موقفها من ايران ونظامها. هو يقول "اميركا اولاً". و"سنسترجع اميركا العظيمة". في معركته هذه يحتسب المصالح الاوروبية، لكنه مستعد للتضحية بها لو تعارضت مع شعاريه مطمئناً الى قوتيه الناعمة والصارمة. مستعد أيضاً للإخلال بمنظومة الحلف الأطلسي لو لم تتحمل اوروبا قسطها من الأعباء المالية والدفاع داخل الحلف لحماية اوروبا نفسها. كرر ذلك أكثر من مرة. وفي التجارة على استعداد لضرب كل القواعد التي بنيت عليها منظمة التجارة العالمية والسوق الحرة ورفع القيود التجارية والمنافسة. يهدد الآن بفرض رسوم على السيارات الاوروبية المستوردة. ألزم الصين الشروع بمفاوضات تجارية ثنائية لا علاقة لها بالسوق الحرة والتنافس وقواعد منظمة التجارة العالمية. خرج من الاتفاق التجاري عبر الاطلسي وفيه 12 دولة تمثل نحو 40% من التجارة العالمية.

لكن هل هو فعلاً يريد "اميركا أولاً" و"استعادة اميركا عظيمة"؟ مصدر قوة الولايات المتحدة الاقتصادية على امتداد العالم كان سيطرتها الناعمة على كل مؤسسات الاقتصاد الدولي من دون الحاجة الى استخدام القوة الصارمة. كل الاقتصادات المعتلّة تتوجه الى مختبرات صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي. يشخصان الحالة والوصفة معاً ويراقبان المريض لتيقن مدى التزامه الوصفة والجرعة والارشادات. في المؤسستين زيدت حصص التصويت المرجحَة بالأسهم للصين ولدول أخرى. وبقيت الهيمنة والقوة الناعمة للولايات المتحدة.

في الصناعة المصرفية لا يختلف الوضع كثيراً. قرارات لجنة بازل لانتظام العمل المصرفي الدولي، لا تلتزمها الولايات المتحدة على الدوام كما غيرها من كل دول العالم التي فيها مؤسسات مصرفية ومالية كفية ومصنفة. تحل محلها تشريعات وطنية تقول إنها الأنسب لها. علماً، أن المصارف الاميركية تتحفظ عن التعامل مع مصارف خارجية لا توفي معايير بازل المنبثقة عن لجنة من مصرف التسويات الدولية في سويسرا. ويوصف إنه المصرف المركزي للمصارف المركزية في العالم. أوروبا تتفهم واقع قوة ترامب الناعمة وعدوانيته. ايران تتنكر لقوتيه الناعمة والصارمة. ولتداعيات العقوبات. والاحتجاجات على الوضع الاقتصادي والاجتماعي تتصاعد. ماذا بعد؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها