الإثنين 2018/11/19

آخر تحديث: 00:03 (بيروت)

رواندا أتت ونحن ذاهبون!

الإثنين 2018/11/19
رواندا أتت ونحن ذاهبون!
قد لا تكفي إصلاحات مؤتمر سيدر، فالاقتصاد بين أنياب نظام سياسي فاسد (Getty)
increase حجم الخط decrease

لا نعرف ما أبلغه نائب رئيس المصرف الدولي، فريد بلحاج، إلى رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري. ما يمكن تأكيده إنه ليس أقلّ ممّا قاله بلحاج إلى وسائل الإعلام بعد اللقاءين مع عون والحريري. مفاده، "إذا بقيت الأمور كما هي، ولم يتم تحريك الإصلاحات، من الواضح أن أمراً ما سيحصل. لا أستطيع أن أحدد وقتاً لحصوله، أسابيع أو أشهر. ولكنني أرى أن هذا الأمر السيئ سيحصل. الواقع أن كل المؤسسات الرسمية لا تعمل بشكل جيد، باستثناء مصرف لبنان".


التعجب والدهشة

"الأمر السيء" هو انهيار الوضع المالي والاقتصادي في لبنان، إذا بقي الوضع على حاله. المسؤول الدولي عجِب من استمرار أزمة الكهرباء وتوزيع المياه بالصهاريج. وأبدى دهشته من "الاختباء دائماً وراء ذريعة الوضع السياسي الخاص بلبنان. كل الدول لديها مشكلات سياسية. لكنها تتقدم في مجال الاصلاحات الاقتصادية، ومنها مصر والمغرب". وختم بأن "لبنان يمتلك أهم رأسمال بشري في المنطقة. لكن كل هذا التأخير في الإصلاح يجعل منه بلداً متخلفاً. في حين يمتلك القدرات والفرص ليكون دولة متطورة".

صحيح كلام بلحاج. لكنه سياسي المضمون في سياق اقتصادي. في مصر، والمغرب في حدود أقل، كل القرارات السياسية والاقتصادية في قبضة الحاكم. شأن مألوف في معظم الدول العربية والإسلامية. بيد أن الدولة موجودة كياناً مؤسسياً محمياً بدستور وقوانين في صرف  النظر عن طبيعتها. في لبنان النظام السياسي برلماني ديموقراطي. أي حكومة ومعارضة. الواقع غير ذلك. كل القوى السياسية الأساسية يجب أن تتمثل في الحكومة بدعوى الوفاق الوطني و"المحاصصة".


تعطيل جوهر النظام

لا ينتهي الأمر بتأليف حكومة منتجة ومستقرة تبعث على الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. بل العكس صحيح. ينتقل الاحتراب إلى مجلس وزراء يعتبر التصويت فيه على القرارات نقيصة تزعزع الوفاق الوطني. فتتعطل المشاريع والإصلاحات المالية والاقتصادية والإدارية. وإذا تمكّن مجلس النواب من الرقابة، فيعجز عن المحاسبة وطرح الثقة بوزير أو بالحكومة. فملائكة الحكومة حاضرة في مجلس النواب كتلاً راجحة عدداً وصوتاً. هكذا يتعطّل جوهر النظام البرلماني الديموقراطي عن العمل حكومة ومجلس نواب. عدا سلطة التشريع واستنان القوانين الذي لا يدركها المجلس دائماً بسهولة، وتبقى عشرات القوانين غير نافذة في الواقع. ينتشر الفساد، وإهدار المال العام، وتتوقف المشاريع الحيوية والاصلاحات. يكافأ الوزير الفاشل بإعادته إلى الوزارة نفسها، ويعاقب الشعب والبلاد. ما يعانيه المواطن من إذلال ومهانة، وما يتهددنا من احتمالات الإفلاس والفوضى العارمة والمخاطر، نتائج وليست أسباباً.


المثال الأفريقي

سنذهب مع الموفد الدولي إلى أبعد. رواندا استقلّت عام 1964. معظم مؤشراتها الأساسية والإنسانية كانت في جوار الصفر أو دونه. شهدت أبشع مجازر إثنية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي في 1994. مليون قتيل في مئة يوم، غالبيتهم من أقلية التوتسي. وتمثل نحو 14 في المئة من تعداد السكان والهوتو 84 في المئة. أدوات المجزرة تعبر عن مدى التخلف. الفؤوس والسلاح الأبيض. منذ 2002 بعد استقرار البلاد، حصلت عملية إصلاح اقتصادي كبيرة. مكّنت البلاد من تحقيق نمو حقيقي ومستدام بدءاً من 2005 حتى 2017 بواقع 7.5 في المئة، معدلاً وسطاً سنوياً على التوالي، كما تؤكد تقارير المصرف الدولي. منظمة السوق الأفريقية المشتركة لدول شرق أفريقيا وجنوبها "كوميسا"، تصنف روندا الآن واحدة من الدول الأفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي. في المرتبة 22 في ريادة الأعمال بين دول العالم. تضاعف دخل الفرد في ثلاثة عشر سنة سبع مرات. تُحضر الحكومة احتفالاً في 2022 لمناسبة القضاء على الفقر.  64 في المئة من مجلس النواب الرواندي من النساء، مقارنة بـ22 في المئة معدلاً وسطاً على مستوى العالم. باتت المرأة تستطيع التملك وترث أبويها خلافاً للسابق. شُطبت العرقية الإثنية من تذكرة الهُوية. مواردها الاقتصادية الزراعة وسياحة البيئة بواقع 70 في المئة إلى الناتج المحلي. لِننس. هناك ما هو أهم في البعد السياسي والحضاري. فرئيس البلاد من قبيلة التوتسي. أي من أقلية الـ14 في المئة! البعد الحضاري أيضاً، لأن الحروب الهمجية بين أمم أوروبا وفي الولايات المتحدة استمرت قروناً قبل أن تبلغ الحضارة والترّقي.


هل يخجلون؟

يعرف مسؤول المصرف الدولي الذي تحدث عن موارد لبنان البشرية التي تؤهله ليصبح دولة متطورة، أن الاقتصاد بين أنياب نظام سياسي فاسد ويعتاش عليه. لكن زميله في الوفد رئيس البنك الدولي الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ساروج كومار جا، شدد على إنقاذ القطاعات الإقتصادية والعمل على الإصلاحات الضرورية التي نصّ عليها مؤتمر سيدر ومؤتمرات باريس 1 و2 و3 والقضاء على الفساد. "لأنه لا يجوز تنفيذ الإصلاحات من دون إجتثاث الفساد في القطاع العام وفي غيره". نسوق رواندا مثالاً لعلّ المسؤولين المتخصصين في إهدار الموارد البشرية والطبيعية والبيئية، يخجلون قليلاً ويرعوون من تجارب بلاد تعوِزها الموارد إلى حد الندرة. وها هي موارد ثروة اللبنانيين والاقتصاد والبيئة تتحول وبالاً عليهم وعلى اقتصادهم وحياتهم. لقد حقق لبنان أيضاً في حقبة 2007 – 2010، 7.5 في المئة نمواً حقيقياً معدلاً وسطاً. عقّمنا النمو في مواسير الريع والنموذج المتهاوي الذي انتقدته دراسة ماكينزي أند كومباني، وطلبت بدائل منه، متاحة في اقتصاد منتج، يعتمد على الزراعة والصناعة والقطاع السياحي والتقانة.

إنذارات متتالية

الأمر لا يتعلق بالمصرف الدولي وماكينزي لوقف الهوة السحيقة الذاهبين إليها. هذه شغلتنا نحن. والاصلاحات المطلوبة واقعة في أسر النظام السياسي وتابعه النموذج الاقتصادي. أن نتحدث عن الفساد والإهدار ونجتنب النموذج السياسي، كمن يلعن الثمرة ويمجّد الشجرة.

طوفان الصرف الصحي لم يتأتّ من احتقان المجاري. بل مجاري النظام السياسي ومساربه هي التي احتُقنت. هل كانت مفاجأة؟ أبداً. مياه الليطاني دليلاً. منها ترتوي نحو 65 في المئة من الخضر والحشائش والفاكهة والحبوب. أي المنتجات الفاضلة، ووصفة الأطباء للصحة المثالية والمضادات الحيوية الطبيعية. وهي مدخلات للصناعة الغذائية في لبنان، التي بدأت تحتل قائمة الصادرات اللبنانية بقيمة مضافة راجحة وعالية. خلافاً لشأن صناعات تحويلية أخرى تعتمد المدخلات الأجنبية والطاقة المكثّفة، ما يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج وتراجع هامش المنافسة في أسواق الصادرات.

وإذ نتلقى الإنذار تلو الآخر من مخاطر الانهيار المالي، يراد الآن منع تأليف حكومة بحجج واهية وبائسة للدفع بالانهيار. رواندا أتت منه ونحن ذاهبون.. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها