الإثنين 2015/07/27

آخر تحديث: 09:32 (بيروت)

حين تيأس سارة

الإثنين 2015/07/27
increase حجم الخط decrease

تقول سارة، التي تنتظر أن يعطوها الجنسية الفرنسيّة، إن الواحد، كيفما قلّب الأفكار في رأسه، سيجد أن فرنسا هي أفضل بلد في العالم. وسارة، التي لا تريد العودة إلى بلادها ، تصير تحشد في حديثها كلّ أنواع الإنتقادات على هذا البلد الذي تتمنى أن تصبح من مواطنيه، من العنصرية الفجّة وكراهية الغرباء، إلى إفلاس السياسة ولا أخلاقية السياسيين، إلى غلاء المعيشة والتسيّب البيئي، إلى التصحّر الثقافي وإلخ... ثمّ تخلص إلى: "كلّ هذا صحيح ومن سيّئ إلى أسوأ، لكن فكّري قليلا، هل هناك بلد آخر أفضل حالا بحيث تفكّرين بالعيش فيه؟". لا تنتظر سارة جوابا، وأنا لا أُعمل رأسي في البحث عن جواب...

ذلك أن سارة مثقّفة وفهمانة ومتابعة، ولا يستطيع سامعها المزايدة عليها في مادّة أو موضوع حديثها أيّا كان. أكثر من ذلك، لدى سارة حسّ شاهق (بدل عالي) بالمسؤوليّة الأخلاقية، إذ قبل أن تيأس وتغادر بلادها إلى فرنسا، كانت مناضلة بأحلى ما تحمله هذه الكلمة من دلالات إنسانيّة. وحين علمتُ أنّ سارة تقدّمت بطلب الجنسيّة الفرنسيّة، بعد إقامة تجاوزت الأربع سنوات، شعرتُ شخصيا أن العالم بأسره دخل مرحلة جديدة. على نحو ما يعبّر الأدب أحيانا، في روايات بعناوين تبدأ ب"آخر..." مثل: "آخر الموهيكان" أو "آخر العادلين" أو ما شابه، للإيحاء بانقضاء مرحلة ما بكافة أشكال وجودها وإلى غير رجعة. فأن تعلن سارة يأسها من النضال يعني أنّ هذه الكلمة قد غادرت معانيها النبيلة الأخيرة، وأنّ استعمالها بات عندنا وعند غيرنا "هازبين" فعلا. وهو على فكرة كذلك، في فرنسا على الأقلّ. فصفة "مناضل" يستعملها الشباب للسخرية من شخص بات في عصر قديم، ينتمي إلى تنظيم صغير هامشي، ويعيش في قضايا ماضٍ انقضى. وصورة هذا الأخير الرائجة عندهم هي، على الأرجح، تشبه صورة البطل الهيبيز في نتف من أفلام الستينيات، الهزيلة البيكسل، بشعره الطويل وبناطيله المزركشة وصندله الجلدي. أمّا من بقي من جيل المناضلين هؤلاء، وقد بدّد القرع شعر رأسه واستدار كرشه بفعل شرب البيرة والتحشيش والقعود التأمّلي، فلم يعد يصادفه الشباب إلاّ في تظاهرات تقطع طريقا فرعيّة في غابة، مهدَّدة إحدى شجراتها بفأس العائد الربحي أو ال"سيستيم"... هؤلاء يسمّيهم الشباب تهكّما "زيزي رايدر" – إن كنتم تتذكّرون فيلم "الجيل" الذي يحمل عنوانا شبيها- أقصد "إيزي رايدر"...

ولأنّي لا أحبّ النقاش، ولم أعد أناقش أحداً في قناعاته بالمرّة، لم أردّ على سارة حين نفت أن تكون استسلمت وأعلنت يأسها من البحث عن العدالة الإنسانيّة. قالت بحماس من يردّ تهمة مبيّتة شكّت هي في تجوالها في رأسي –أي النيّة - قالت إنها ستظلّ تروح وتجيء، من وإلى بلدها، وإنّ هذا أكثر فعاليّة إذ يتيح لها الحركة الحرّة. ممكن. لم لا؟! لكنّي صرت أعرف عن سارة أنّها فقدت تقريبا كلّ رفاقها، هي التي تعرف كلّ الناس، ويعرفها كلّ الناس. وإلى جانب الرفاق نزلت برودة ما على علاقاتها بأصدقائها. ومنذ مدّة صارت سارة محدودة الأمل والبشاشة، إذ خفّت تلك النظرة المتفهّمة التي تؤكّد دوما على الناحية الإيجابيّة للأمور، بحيث يمكن "تقويم المقتاية" – أو ذنب الكلب – بالنضال والمثابرة. سارة تغيّرت. صار زعلها من الناس قريبا -كما نقول- وارتفع منسوب متطلّباتها الصارمة من ناحية المبادىء. وصارت تطيل القعود في بيتها...

بين سارة وبيني كانت الأحاديث تجري بحسب تفاهمات ثابتة تقبل فيها سارة عدم قابليتي للنضال، واستنكافي عن القيام حتّى بما تمليه قناعاتي القليلة حين تنوجد هذه القناعات، كأن أذهب لحضور فيلم جميل و"مهمّ" دعما لـ إلخ... في الحال الأولى كانت تضحك وتردّ الموضوع إلى أنّي مناضلة بالضرورة لأني كاتبة. وفي الحال الثانية تجد لي الأعذار الصحيّة كوجع الظهر، أو الكسل المشروع في الطقس العاطل. وفي الأيّام الأخيرة توقّفت سارة عن محاولات إقناعي بأي شيء، حتى بأسلوبها العابث، وتوقّفت كذلك عن استنهاض همّتي من أجل حضور أيّ "نشاط"...

ولأني، من أجل احترام أدبيّات السماع، أبادر بعد كلّ مقطع من طرف محادثي إلى طرح سؤال، أيّ سؤال يفيد بأنّي أصغي وأهتمّ، سألتُ سارة لماذا تريد أن تصبح فرنسيّة، علما بأن الجنسيّة لن تساعدها في بحثها المضني عن عمل، ولا في تسهيل قبول أفكارها – الديمقراطية والباحثة عن الحقّ والعدالة فعلا- التي لم تعد هناك جهة إعلاميّة فرنسيّة واحدة تريد التورّط بنشرها.

ندمت طبعا. من يسأل غريباً عن حاجته أن يكون غريباً؟!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب