السبت 2015/01/24

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

جون كيج.. الموسيقى هي الصوت بحد ذاته

السبت 2015/01/24
جون كيج.. الموسيقى هي الصوت بحد ذاته
أبدع كيج موسيقى لا تتعلق بالمشاعر، التي بنظره تُعمي الإنسان عمّا يمكن أن يتلقّفه من الطبيعة
increase حجم الخط decrease
في عالمٍ يرمينا بالعديد من المؤثرات أو المنبّهات الحسيّة، إن كانت بصريّة أو سمعيّة أو غيرها، نشعر بنوعٍ من الفوضى والعشوائية في نشأة تلك المنبّهات، لذا نسعى لإعادة ترتيبها كي تتناسب – إذا جاز التعبير - مع ما يشعرنا بترتيبٍ وانسيابٍ "طبيعيّ".

لكن تلك المفاهيم عن اعتبار نوعٍ من الصور أو الأصوات متناسبةً مع بعضها البعض في ترتيبٍ معيّن، على عكس غيرها، كانت ولا تزال موضع خلافٍ فلسفيٍّ. فيصعب تفسير سبب تفضيل نوعٍ من الفنّ على نوعٍ آخر، أو إعطاء معنى لكلمة "فنّ" كبداية. وتبقى أكثر النظريات إثارةً للاهتمام هي التي تخرج عن المألوف لتلقي الضوء على ما لا يخطر في البال للوهلة الأولى، لكنّه يحفّز بعضاً من التفكير والتعمّق في الموضوع بعد الاطّلاع على مفهومه الأساسيّ.

وفي تاريخ الموسيقى تقلّباتٍ عدّةٍ وابتكاراتٍ صُنِّفت بالموسيقى التجريبية عند نشأتها، ومن ثمّ وُضعت في خانةٍ خاصّةٍ بها بعدما لاقت رواجاً واهتماماً من بعض المتخصّصين في الموسيقى كالموسيقى التي تُصنّف بأنّها ”atonal“، أي أنّها لا تتبع مقاماً معيّناً. ففي حين أنّ هذا النوع من الموسيقى ابتُكر كوسيلةٍ جديدةٍ للتعبير وللبحث عن أبوابٍ يمكن من خلالها الخروج عن إطار التأليف الكلاسيكي وتطوير الفنّ، جاء بعض الفنّانين والمفكّرين لطرح أسئلةٍ أكثر راديكاليةً من مجرّد كيفية التعبير، إلى السؤال عن معنى الموسيقى والصوت.

وأكثر الفنّانين راديكاليةً في طرح هذه الأسئلة، كان الموسيقى الأميركي جون كيج، الذي رأى الجمال في فوضى الأصوات التي نسمعها يوميّاً. ومع أنّه أحبّ الموسيقى، إلّا أنّه أراد معرفة ماهيّتها، فرأى أنّه من الضروري أن نبتعد عن تأليف موسيقى تكون مرتّبةً على أسسٍ مُبتكرةٍ من المؤلّف، إذ أراد الكون أن يختار صوته المناسب من محض الصدفة.

ومن هنا، أبدع كيج موسيقى لا تتعلق بالمشاعر، التي بنظره تُعمي الإنسان عمّا يمكن أن يتلقّفه من الطبيعة، ففي رأيه، يجب علينا قبول الفوضى الكونية بما هي عليه وعدم بذل جهدٍ لإعادة صياغتها، فأفضل الأصوات هي التي لا معنًى لها. وفي أوائل مسيرته الفنيّة، ألّف كيج مقطوعاتٍ للبيانو من معادلاتٍ رياضيّةٍ معقّدة كنوعٍ من الإيحاء من الطبيعة، إلّا أنّه لم يجد الجواب الذي كان يبحث عنه، فلجأ إلى الفلسفة الصينية التي كان مولعاً بها وخاصّةً فلسفة الـ"Zen"، ومن خلالها تعلّم كيفية تلقّف كلّ ما تمنحه الطبيعة كما هو. وأبرز ما اعتمد عليه في تأليفه الموسيقيّ هو كتاب الـ"I-Ching" الصينيّ، الذي يُعرف بـ"كتاب التغيّرات"، وهو يستخدم أسلوب تكهّنٍ ينتج أرقاماً عشوائيةً يمكن استخدامها ايضا لقراءة أشكالٍ في الكتاب ومن ثمّ التكهّن. وقد طبّق كيج هذه التكهّنات على قوانين موسيقيّةٍ لتأليف ما يمكن وصفه بالتأليفٌ من الصدفة.

بقي كيج في حالة اكتشاف موسيقى الطبيعة عبر الـ"I-Ching" إلى أن اتّضح له أنّ موسيقى الكون الفعليّة هي مجرّد ما نسمعه يوميّاً من غير الإصغاء إليه. وتجلّت هذه الفكرة في أشهر مؤلّفات كيج، ألا وهي "معزوفة" 4’33". ونضع كلمة "معزوفة" هنا بين مزدوجين لأنّ 4’33"عبارة عن أربع دقائق و33 ثانيةٍ من الصمت. قُدِّمت "4’33" بطرقٍ عدّةٍ من عازف بيانو يجلس أمام البيانو بلا عزفٍ لمدّة أربع دقائق و33 ثانية إلى أوركسترا ضخمة تلتزم الصمت أيضاً المدة نفسها مع قلب الصفحات بين "مقاطع" المعزوفة.

يمكن القول للوهلة الأولى، أنّه عملٌ كوميديّ، لكن مع القليل من التدقيق، يتّضح أنّ كيج غير معنيٍّ بالصمت بشكلٍ خاص، وإنّما بالأصوات المحيطة به. ففي أداءٍ كلاسيكي، يركّز المستمع على العازفين فقط ويلغي بشكلٍ أوتوماتيكيّ الأصوات المحيطة به، ولأنّ كيج يريد معرفة ماهية الموسيقى، أتت 4’33” لتلقي الضوء على الأصوات الملغاة خلال العرض الموسيقي، فتصدر أصواتٌ مختلفة مع كلّ أداء، وتعتمد الأصوات على الصدفة فقط لا غير، أي أنّها أصواتٌ خلقتها الطبيعة ولم يصغها أحد. وبهذا عبّر كيج بطريقةٍ فلسفيّةٍ عمّا يؤمن به، أي أنّ الموسيقى هي الصوت بحدّ ذاته. ولماذا يكون هذا الاستنتاج خاطئاً في حين أنّ كبار الموسيقيين العصريين لا يقدرون على تفسير سبب حبّهم لموسيقى معيّنة؟ نأخذ على سبيل المثال، عازفة البيانو اليابانية ميتسوكو أوتشيدا التي تُصرّ على أنّها لا تقدر أن تشرح سبب حبّها للموسيقى مع أنّها لا تتخيّل نفسها قادرةً على حبّ عملٍ آخر.

ربّما وجد كيج هذا الحب في الصوت وحده، إلّا أنّه لم يره على أنّه حبٌّ بالمعنى الشائع، فبتبنّيه هذه الفلسفة، كان هدفه إلغاء ما يمكن أن يتعلّق به الإنسان عاطفيّاً، وإيضاح فكرة ارتباط الكل بالكل وعدم أهميّة شيء على شيءٍ آخر وديمومة الحياة في تحرّكها وعدم وجود صمت فعليّ. وربّما بعض مّا قاله كيج يتسم بالتناقض من حيث انّه مرتبطٌ عاطفيّاً بما تعنيه الأصوات الناتجة عن الصدفة من الناحية المعنويّة، كما أنّ كيج حاول على الأرجح الهروب من عواطفه كوسيلةٍ للتأقلم مع مصاعب الحياة وتأثيرها في عواطفنا. لكن وبلا شك، تبقى أفكاره موضع سؤال، بل أسئلة حول طبيعة الموسيقى والفنّ والعواطف، وهذا تماماً ما أراده، فيبدو ذلك جليّاً في قوله: "ما يمكن تحليله أو انتقاده في عملي هو الأسئلة".

ربّما كيج لم يفهم ما هي الموسيقى أبداً، وربّما فهمها أكثر من أيّ شخص آخر. هذه الجملة يمكن أن تختصر جلّ ما يعبّر عنه كيج والأثر الذي طمح أن يتركه على العالم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها