الأحد 2015/07/26

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

الإجتماع مع النفايات بالتقارف

الأحد 2015/07/26
الإجتماع مع النفايات بالتقارف
طوفان التقارف(علي علوش)
increase حجم الخط decrease
يتحصل النظر في أكوام النفايات، التي تجتاح مدينة بيروت، على جانب من الإجتماع البشري معها، إذ أن المارين بقرب القمامة وفوقها يعتريهم إنفعال، ويصيبهم سؤال عن مآلهم في حال ظلت فضلاتهم معهم وبينهم.


فهم لم يعتادوا رؤيتها، بل أنهم واظبوا على التخلص منها، وإخفائها، والتستر عليها. إلا أن المخبوء لتلفه، والمكتوم لطمره، تراكم على بيان من مواريه ودافنه، وبدون أن يعني، بظهوره المتكدس، الإعتداء عليه، عنى له ذلك.

الجميع يرغب في جعل دفق أزباله مكنوناً من جديد، والجميع، وإن طلعت بقاياه من حوله، يُسرع في إبعادها عنه كي لا تحيل مطافه إلى مطافها. إحالتها تفيد استعصاء دوامه، وتتركه على تقززه ونوسانه منها. فالناس أمام نفاياتهم رهط من النائسين لا أكثر، بحيث أن نظام النظافة، وأخلاق نقاوته، تعطل، وما عاد قادراً على لجم أوساخه، التي حطمته، وصار هو ركام تراكمها. لقد بقيَّ منه شعور واحد، أي القرف، وعلى أساسه يجتمع النائسون مع اللامرئي من طهارته، مع ناقضها ومُحَاكمها.

ولأن الإجتماع مع النفايات يجري بالتقارف، فيعدّه ممارسه سبيلاً للتصدي لإحالة أكياس القمامة وكراتينها الممزقة. فلما يرى ما لا يراه، يقرف، وفعله هذا، بحسبه، علامة على أن المُقرِف لا يزال في خارجه. غير أن الواقع ليس في حُسبانه، خصوصاً أن الأوساخ تحيطه من كل صوب وحدب، ما يكفل قوتها على مباغتته بإستمرار.

فتقارفه منها، على مسعى توقيف إحالتها أو تأخيرها، تأخذه في طريقها، لتكون الدناوة شرطها. كلما قرفنا، الآن في بيروت، دنونا أكثر فأكثر من قمامتنا، التي تقلب شعورنا، وتحوله تقشيراً لنظافتنا المنتجة لها. وذلك، ليس من أجل دفعنا للإتصال بها، فالنفايات لا تعبأ بأحوالنا المعبِّئة لها، ولكن، نزعاً لآخر ما يعلق فينا من نُظم التطهير والتنظيف والتنقية، والتي لطالما اعتمدت بحقنا، واعتمدناها مسلكاً اتجاه أغراضنا وأطعمتنا، وتشكيلاً لها.

فما نراه بعد طول كبت له لا يرسو على شكل. وهو، بوضعه هذا، يكاد يقول لنا أننا مؤاتون له، ولن يعيننا الناقص منه، والمُضاف إلينا، أي الهيئة والقالب والمحيا والصورة والخلقة، على مواتنا. مثلما يكاد يقول لنا أن تقارفنا منه، باعتباره موضوعاً عنيفاً، يكشف لنا التطابق بين وجودنا وأجسامنا. وجود في مدينةٍ، يبدو أنها ما عادت تقوى على ممنوعها، لأنه ببساطة ممنوعها، وأجسام، أفرطت في طلعتها الإستملاكية ظناً منها أن، بهذه الطريقة، تتفادى الهبوط الهلاكي.

النفايات تدلنا على أجسادنا لتصير بعيدة عن مُثلها، وتدلنا على نظامٍ منهار بسبب دورانه حول نبذ مكبوته وإنكاره، وتدلنا أيضاً على أن قرفنا، الذي بنينا تمدننا به، أضحى مدخلاً إليها، وليس مخرجاً منها. التقارف سبيل إلى القُمامة، دناوة شعورية من الذي كان، في وقت ضموره، يبرهن على فعالية نظافتنا، والآن، يثبت أنها مجرد فكرة متكبرة، ولا فضل لها عليه.

إننا نرى مكبوتنا، ونشعر بممنوع تمدننا، فالمصروف من منازلنا تفلت من مطامره غير اللائقة بمعناه. إننا نرى موتنا يتراكم أمام أنظارنا، ومهما قرفنا، ومهما خفنا منه، سيكون تحاشى مصيره مستحيلاً. رهاب القذارة لا يجدي نفعاً، ولا دولته، ولا سلطاتها، والتقارف بوصفه تصدياً للإحالة أصبح مضراً. تكرار التعامل مع النفايات بالأخلاق النظائفية ذاتها سيؤدي إلى إجتياحها لنا مرة تلو المرة.

لقد بلغتنا القمامة، وأخذنا ظهورها على محمل طارئ، كأنها نوبة قلبية تصيب البلاد، التي تكره أوساخها، لأنها تذكرها بحالها: تغرق في قبرها العفن، وتأكلها الديدان الضخمة، تنكر وتتكلم بالأنا النظيفة عبر شتم آخريها، وتشبيهه بنفسها. لطالما قرفت بيروت من غيرها، الآن، الفضلات تبرز حقها فيها: "أريد نظافةً لا تكتمني كي لا أكتم أنفاسك".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها