الأربعاء 2024/03/06

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

"أنا الكابتن" لماتيو غاروني: إحترسوا.. أوروبا ليست الجنة

الأربعاء 2024/03/06
"أنا الكابتن" لماتيو غاروني: إحترسوا.. أوروبا ليست الجنة
أوديسة غاروني الإفريقية تحوّل المأساة إلى قصة خيالية
increase حجم الخط decrease
في المؤتمر الصحافي بعد العرض العالمي الأول لفيلم "أنا الكابتن"، ضمن النسخة الأخيرة لمهرجان "كانّ" السينمائي، قال مخرجه الإيطالي ماتيو غاروني شيئاً مثل "أنا رجل أوروبي أبيض"، مُعبّراً عن صعوبة الاقتراب من عالمٍ واضح أنه غريب عنه (والتشكيك في حقيقة نجاحه). في فيلمه الأخير، يتناول مخرج "عمورة" قصة مراهقين إفريقيين يبلغان من العمر 16 عاماً، ينطلقان من موطنهما داكار، لتحقيق حلمهما بالوصول إلى أوروبا.

تصريح المخرج صادق بقدر ما هو وثيق الصلة بالموضوع. فالانجراف الذي يقترحه هو فيلم مغامرة. مغامرة الهروب من منزل العائلة وعبور الصحراء للوصول إلى ليبيا ومن هناك ركوب قارب للوصول إلى أرض الميعاد الأوروبية. لكن من جانب آخر، لا يبدو أن بطلا القصّة، سيدو (سيدو سار) وصديقه موسى (مصطفى فال)، يعيشان حياة صعبة في وطنهما تفضي إلى اضطرارهما خوض تلك المغامرة الخطيرة. ترتبط فكرة الوصول إلى أوروبا بالبناء الأسطوري لعالم أفضل مفترض. هما لا يهربان من الجوع أو الاضطهاد أو قلة العمل؛ بل لأنهما يحبّان الموسيقى ويريدان النجاح في هذا المجال. يريدان كسب المال، وأن "يطلب منهما المعجبون البيض توقيعاتهما"، يكرّر موسى لإقناع سيدو، الأكثر تخوفاً وتشككاً، بالقيام بالرحلة.

بمعنى ما، يبدأ ماتيو غاروني قصّته من نهاية فيلمه السابق، "بينوكيو"، لأن سيدو وموسى يمكن اعتبارهما بينوكيو ولوسينيولو فيما يغادران إلى أرض الألعاب، محاطَين بالقطط والثعالب المستعدة لافتراس سذاجتهما. بهذا، يحافظ المخرج الإيطالي على إلهام القصص الخيالية الذي كان جزءاً من منهجه التأليفي لسنوات، لكن هذه المرة يبدو أن الموضوع يُعامل بعناية أقل، ويصبح استخدام الخطابة "سهلاً".

وبهذا المعنى أيضاً، يستوي "أنا الكابتن" كفيلم طريق نرى فيه كيف ستغيّر مشقّة الطريق المراهقَيْن الإفريقيَين، مثلما سنعاين قسوة ووحشية وظلم على طول الطريق. سنشهد إضفاء الطابع المؤسسي على الابتزاز والعنف وسرقة المحتاجين وسوء المعاملة والفساد على الحدود، والمنظمات المُنشأة للاحتيال على أولئك الساعين للهروب، والموت في الصحراء، وحتى الاختطاف في سجن غير رسمي أنشأته المافيا خصيصاً في ليبيا لفدية الأسرة، وقتل أو بيع أعضاء النزلاء الباقين على قيد الحياة كعمالة رخيصة. وبالطبع، لا يزال هناك البحر الأبيض المتوسط الذي يجب عبوره (وهو ما يرتبط بعنوان الفيلم نفسه).


بالعودة إلى البداية، لا يبرّر تصريح/تساؤل غاروني الصادق في حدّ ذاته النهج الذي يقترحه. ومن المؤكد أنه يستحقّ المزيد من التفكير. أعترفُ أن السؤال نفسه الذي يطرحه تردّد في ذهني قبل أن يلفظه في المؤتمر الصحافي بعد العرض. هل هناك مراهقَيْن على استعداد حقاً لخوض كل ذلك لأنهما يريدان تكوين فرقة موسيقية؟ قوة الإدانة وصلة المقاربة للموضوع لا تخفي الشعور بأن الفيلم يُخضع صبيين إلى مسيرة تشبه الجلجلة، دون أن يُمنحا حتى العذر أو التبرير أو قيمة "القضية العادلة".

من الواضح أين يكمن الظلم، لكن لا يسع المتفرّج إلا الشعور بتناقض ما أثناء مشاهدته الفيلم. فهذا ليس مجرد فيلم آخر من تلك الأفلام التي تنجزها أوروبا "لغسل الذنب"، والتظاهر بأن لديها ضميراً ومن ثمّ التزام الهدوء من دون القيام بالكثير. لكن ما وجهة نظر الفيلم فعلاً؟ هل هي وجهة نظر سيدو، أم أنها وجهة نظر ذلك الرجل الأوروبي الأبيض الذي يقول للعديد من المراهقين والشباب الذين قد يكون لديهم هذا الحلم: "احترسوا، أوروبا ليست الجنة" (شيء مذكور حرفياً تقريباً في أكثر من في مناسبة واحدة من قِبل شخص بالغ في الفيلم) أو "انظروا إلى ما عليكم أن تمرّوا به إذا تجرّأتم على المخاطرة"، باختصار، تقريباً، "من الأفضل ألا تأتي"؟.

أجرؤ على التعبير عن هذه الشكوك لأن غاروني نفسه، بأمانة فكرية كبيرة، مكّن من إجراء المناقشة. في الواقع، لا بد أنه فكّر كثيراً ويبدو أن هذا الشك يخالطه أيضاً. ومن الواضح أنه قد عمل وفكّر في الموضوع لأنه يبدو أجدر بالثناء على هذا الشكّ أكثر من الكلمات التي عبّر عنها في تصريحاته لكتالوغ المهرجان. وقال هناك: "بدأنا بالاستماع إلى قصص حقيقية لأشخاص نجوا من الجحيم، قصص مماثلة لتلك التي رويت في الفيلم، وقررنا توجيه الكاميرا لنروي هذه الأوديسة الحديثة من وجهة نظرهم. يقدّم "أنا الكابتن" إذن هذا النوع من المستوى المضاد في ما يتعلّق بالصور التي اعتدنا رؤيتها من منظورٍ غربي بهدف "إعطاء صوت" لأولئك الذين لا يملكون صوتاً.

بالطبع كاتب هذا المقال لا يتبنّى الموقف القائل بأن المعنيين بشأن ما هم المخولون فقط رواية قصصهم. فهذا موقف/رأي يبدو أنه يريد التوقيع على شهادة وفاة لكل الخيال الممكن، والذي يتطلّب، مدعياً، أنه لتعكس عالم الأنثى، مثلي الجنس، الأفريقي، المواطن في أي مكان، وما إلى ذلك، يجب أن يكون لديك هذا الأصل، ذلك الجنس، التوجه الجنسي أو الانتماء إلى تلك الجماعة. وأكرر: هذا ليس موقفي. لكن لا يسعني إلا أن أرى بعض التنازل في مثل هذه التصريحات المذكورة أعلاه. وما زال شيء من المركزية الأوروبية الرجعية (التي يبدو أنها أصبحت واعية بنفسها) حاضراً هناك ويظهر في بعض التصريحات، على نحوٍ يكاد يكون فاشلاً في تعبيرات مثل "الانصات" و"إعطاء صوت". القيام بالأمر الأول صعب للغاية. معالجته وترجمته إلى لغة سينمائية، أصعب بكثير. لكن الصوت، في النهاية، بالطبع، يظلّ صوت غاروني، الإيطالي الأوروبي.

على أية حال، هذا هو المكان الذي تساعد فيه السينما أيضاً. أسئلة بلا إجابات. يركّز الفيلم على موضوع صعب ومتطلِّب لا يكفي فيه/معه الصواب السياسي للخروج بشكل جيد. لا أعرف إذا كنت على حق، أم أن هذا تفسير مفرط وغير موضوعي من جهتي. لكن إذا تركَنا الفيلم نفكّر في كل هذه الأشياء، فمن المؤكد أنه يستحق المشاهدة.


(*) رُشّح الفيلم مؤخراً لجائزة أوسكار أفضل فيلم دولي. كما فاز في مهرجان "كانّ" بجائزتي أفضل إخراج وأفضل ممثل شابّ (سيدو سار).

أنا الكابتن Io capitano (إيطاليا/بلجيكا/2023). إخراج: ماتيو غاروني. بطولة: سيدو سار، مصطفى فال، إيساكا سواغودو، هشام يعقوبي، دودو سانيا، خادي سي، بامار كين، الشيخ عمر دياو. سيناريو: ماتيو غاروني، ماسيمو غاوديوسو، ماسيمو تشيشيريني، أندريا تاغليافيري. تصوير سينمائي: باولو كارنيرا. مونتاج: ماركو سبوليتيني. موسيقى: أندريا فاري. المدة: 121 دقيقة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها