السبت 2024/03/02

آخر تحديث: 14:39 (بيروت)

حلمي بكر.. الأب يقتل نفسه

السبت 2024/03/02
حلمي بكر.. الأب يقتل نفسه
رحيل حلمي بكر صاحب الألف.. الألف وخمسمئة.. وثمانمئة لحن، الذي تزوج تسع... ثلاث عشرة
increase حجم الخط decrease
لو أن حلمي بكر لم يلحن في حياته غير استعراضات وأغنيات مسرحية "سيدتي الجميلة" لكفاه أن يترك علامة بارزة في ديوان الموسيقى العربية، لكنه لم يرضَ بغير أن يصير أبًا لها، وهذه مأساته.

ربما تبدأ حكاية الموسيقار المصري المثير للجدل، وتنتهي، عند محمد عبد الوهاب. فحلمي بكر الذي غيبه الموت أمس عن 87 سنة، ربط منجزه تأسيساً بمنجز أستاذه المفترض في إطاره الخارجي فقط من دون أن يمس شيئًا من جوهر عبقرية ووعي، مكّنا الأول من قيادة الواقع الموسيقي العربي حتى أيامه الأخيرة.

يتحدر عبد الوهاب من أسرة لفظته لعمله بالفن، لكنه تمكن رغم ذلك من إدراك مكانة عليا وضعته على عرشه منذ عشرينيات القرن الماضي حتى رحيله في تسعينياته، ليس لأن إرثه استطاع تجاوز الحقبة الزمنية تلو الأخرى، وإنما لامتلاكه وعيًا جعله يروض الزمن في أطواره المختلفة من دون أن يتنازل عن كرسيه، فقط يغير موضع مقعده من مطرب القصر والشعب إلى أستاذية استوعبت في عباءتها كل من جاء بعده.

وكان أبو حلمي بكر يتحدر أيضاً من أسرة لفظته لعمله بالفن، فجاء نجله شغوفًا بالموسيقى، ودرسها حتى تخرج في معهدها، يعد ذاته لأن يصير مطربًا لكن الخدمة العسكرية أبعدته عن حلمه، حتى استمعت إليه الفنانة وردة الجزائرية ملحنًا وقدمته إلى الإذاعة كذلك، فترك الغناء إلى التلحين الذي أدرك منه قدرًا من الشهرة، ثم أراد أن يجلس أستاذًا على عرشه، يمنح صك القبول للجيل تلو الآخر، لكن عبر أدوات تلفظ لا تستوعب، لأنها لم تنل شيئًا من التطور، فتجاوزه الزمن، تجاوزه بقسوة؛ سخر منه ومن أستاذيته المفتعلة.

هذا الربط الشكلاني بين المصيرين/الحكايتين، لا يصنعه فراغ المخيلة عند قراءة مشوار بكر؛ بل يصنعه بكر نفسه حين يستعرض مشواره وفي القلب منه علاقته بعبد الوهاب، الذي قدمه لحسن عبد السلام وفؤاد المهندس ليضع ألحان "سيدتي الجميلة"، ثم سهراتهما معًا التي انشغل القدر الأكبر منها بتقييم مطربي الموسيقى الشرقية منذ رعيلها الأول وحتى نهاية الثمانينيات، في تسجيلات أكد حلمي بكر في أكثر من مناسبة أنه يحتفظ بها في خزانته ويرفض الإفراج عنها عملًا بوصية أستاذه.

ذلك الهوس بتقلد الدور الوهابي، يظهر من إشارات بكر نفسه إلى أسرة ميسورة لفظت أبيه (لم تلفظه هو!)، فرغّبته في الغناء قبل التلحين، ثم الجلوس 40 سنة على رأس لجنة الإذاعة المصرية التي تعتمد المواهب الجديدة، فيمنح الجدارة (يُقيم) لمن يعده أهلًا لها ويحجبها عمن يظنه دون ذلك، وكذلك في بحثه عن تلحين أوبريت ضخم على غرار أوبريت "الوطن الأكبر"، فينتج واحدًا تجاريًا يعتمد تجييش المغنّين من مختلف الدول العربية ويستهدف الشحن العاطفي: أوبريت "الحلم العربي"، ويظهر أيضًا في سعيه لتبني وتقديم مواهب شابة على غرار أستاذه، كانوا على عكس من قدمهم عبد الوهاب، فاشلين في الصمود أو تحقيق نجومية تذكر، خارج عباءة الطرب العربي الأصيل.

أين غادة رجب مثلًا خارج أسوار الأوبرا؟ أين سامح يسري عمومًا؟ وإلى أين وصل إيهاب توفيق؟ هؤلاء تبناهم حلمي بكر، وبشّر بقدراتهم كمطربين بناء على أسس العلم الذي يملكه، في المقابل هاجم عمرو دياب ومحمد منير طويلًا، وعدّ -على أسس علمية أيضًا- ما يقدمانه من محاولات للتجديد، إفسادًا فنيًا كما كان يؤكد. يقف العلِم، عند حلمي بكر، عند حد الالتزام بالقواعد الطربية في الكلمة واللحن، ويتجاوز ما هو دون ذلك بدعوى محاربة التغريب والحفاظ على التقاليد الفنية والأخلاق المجتمعية. يقارن حلمي بكر مثلًا أغنية "سو يا سو" لمحمد منير بـ"العتبة قزاز" التي أداها كل من الثلاثي المرح وفرقة رضا وفاتن فريد، فيقول إن الأولى تافهة والثاني قبيحة المعاني، وكلاهما من التراث الريفي الذي لا يرقى لأن يستحيل مدينيًا، مغفلًا أصل الأغنيتين. فأغنية منير كانت أحد الهتافات الثورية ضد المستعمر الإنكليزي في زمن شح فيه القوت، والأخرى من الإبداع الفطري الحسي/الخلاعي، فالعتبة قزاز تشير إلى جسد المرأة الذي تم جليه من الشعر حتى صار مثل الزجاج، والسلم نايلو في نايلو تشير إلى فخذيها الأملسين مثل النايلون. وتجاهل أنهما استطاعا تجاوز تلك الحمولة المعرفية في أصلهما من الأساس، والاستقلال كعمل فني مكتمل بذاته وبموسيقاه من دون داع لسرد حكايته. فكيف يمكن للعِلم الذي يستند إليه ويقيس وفقه ما هو فني وما دون ذلك، أن يتجاوز ظاهرة فنية مثل تلك؟!

كذلك فإن العِلم يعتمد في أصله على التطور لا الجمود، وظل حلمي بكر حتى أيامه الأخيرة، غير قادر على استيعاب الواقع المفتوح، ظن حتى اللحظة الأخيرة أن ثمة قناة واحدة للنفاذ إلى المتلقي، وأن مغنين مثل مجدي شطة وحسن شاكوش وغيرهما ينتظرون مباركته أو رفضه فيجدون فرصة أو يعدمونها للظهور، وكأن شخصًا ما على وجه الكرة الأرضية اليوم ما زالت تنقصه التكنولوجيا متعددة الأدوات للتعبير عن نفسه!

في نعي الصحف، محلية وعربية، للملحن المصري البارز، صوت رفضه لغير الطرب وفق مفهومه الأحادي عنه، كررت جميعها المعلومات نفسها تقريبًا؛ رحيل حلمي بكر صاحب الألف.. الألف وخمسمئة.. وثمانمئة لحن، الذي تزوج تسع مرات... ثلاث عشرة... خمس عشرة مرة، وأثار الخصومة مع مغني الساحة العربية كلهم تقريبًا، ثم عددت تلك الألحان التي اقتربت عند بعضها من ألفي لحن، فأبرزت من بينهما ما لا يتعدى الخمسة أو الستة على أقصى تقدير؛ عرباوي، ع اللي جرى، أوبريت الحلم العربي! هو نفسه في لقاءاته الاعلامية والتلفزيونية المتعددة، كان إذا تحدث عن ألحانه، ذكَر عددًا قريبًا من ذلك، فهل لم يكن لحلمي بكر، من كل الصراخ الذي شغل حيز وجوده في الربع قرن الأخير على الأقل، أثرًا ذا قيمة فنية حقيقية؟

في الواقع، ومن دون إجحاف لذلك المنجز الذي يصعب التحقق منه كمّاً، فإن ما يحسب لحلمي بكر من ألحان جيدة، هو كثير، لكن الفارق والمتجاوز منها نادر، والمفارقة والتجاوز هنا تشير إلى قدرة تلك الألحان على النفاذ إلى وعي الجماهير عبر الزمن؛ "جفنه علم الغزل" عبد الوهاب؛ "رق الحبيب" القصبجي؛ "لسة فاكر" السنباطي، "تواشيح النقشبندي" بليغ حمدي، أمثلة بسيطة عن ذلك التجاوز. أما عرباوي التي غناها محمد رشدي ولحّنها بكر، فقارنها بعدوية التي غناها رشدي أيضاً ولحنها بليغ حمدي، واسأل نفسك أي منهما يرتبط به الجمهور إلى اليوم؟

حلمي بكر، مثلًا هو من أول لحن "فوازير فطوطة" لسمير غانم، لكن العمل الذي استمر إنتاجه ثلاثة مواسم متتالية، يبرز منه لحنا سيد مكاوي "فطوطة مخرج أنتيكة.. اتعلم سينما في أميركا"، وسمير حبيب "دو ري مي فطوطة صول لا سي سمورة"، ولا يتذكر المستمع لحن بكر الذي أفرز الشخصية الطريفة من الأساس العام 1981!

إن مصطلحات قتل "الله/القانون/الأب" التي صاغها نيتشه وفرويد تبرز كأمثلة يجب تجاوزها، إنما تؤكد على قيمتها لا تنفيها، وتؤكد كذلك ضرورة تجاوزها للمضي قدمًا. لكن حلمي بكر الذي يحب وصف نفسه بـ"الأب الذي يصون الأغنية" لم يفطن إلى ذلك، لم يستوعب الأمر كما شخص بدائي ما زال يظن في القبيلة نواة العالم، وإن لمن البسطاء كثيرون قادرون على استيعاب الأمر فطريًا "من دون أسس علمية". كان يكفي حلمي أن يُذكر عنه حبّه للسيارات القديمة والزواج، كمبدع ترك شيئًا وأثرًا جميلًا أطرب في وقته، أو ربما ينصفه الزمن فيتجاوز وقته، لكنه أبى إلا أن يقف ضد الزمن فسخر منه الأخير.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها