الأحد 2024/03/17

آخر تحديث: 07:28 (بيروت)

وليد الخشاب لـ"المدن": التنوير...حلالُه حلال وحرامُه حرام

الأحد 2024/03/17
وليد الخشاب لـ"المدن": التنوير...حلالُه حلال وحرامُه حرام
فرضيتي هي أن موقف الإنسان حيال القوة المتسامية التي تواجهه موقف أنثروبولوجي قديم متجدد
increase حجم الخط decrease
بعدما بدأ الدكتور وليد الخشاب محاضرته، فكرتُ في محمد سليم، الذي ترك بيته قبل 120 عامًا، حريصاً على ألا ينظر خلفه فيرصد أحدهم خطوته. ربما خرج مع العصر حتى يضمن الوصول إلى وجهته تحت غفلة من الليل تستره. ما الذي دفع هذا المطرب الشاب إلى اتخاذ ذلك القرار؟ أقول، ونحن نبعد عشرات السنين عن تلك الساعة: دفعته المغامرة، لكن ما يدرينا أنه لم يعدّها ساعة نحس، مضى إليها تحت وطأة الحاجة؟

كان محمد سليم، الذي احترف الغناء في الأفراح، يستعد للقيام بأكثر أفعال ذلك العصر حرمانية، ما سبق وأعرض عنه عشرات غيره من أهل الصلة الحقيقيين. كان محمد سليم، الذي ترك بيته باتجاه المجهول، يستعد لتسجيل القرآن الكريم على أسطوانة حجرية، في ساعة متأخرة من إحدى ليالي سنة 1906، على قمة جبلٍ عالٍ، أو داخل بيت تصل إليه حارة من باطن أخرى، في أكثر أماكن القاهرة وعورة وبُعدًا من العمران.

كان محمد سليم وأترابه من المغنين والعوالم، وحتى الربع الأول من القرن العشرين، كانوا وحدهم من يقوون على تسجيل كلام الله على أسطوانة من صنع البشر!

لم يأت وليد الخشاب خلال محاضرة بعنوان "التنوير والخلاعة في عصر النهضة بين الفيلم والاسطوانة"، ألقاها ضمن سيمينار شبكة آمون للباحثين في الأدب والسينما، على ذِكر محمد سليم ومغامرته المدهشة، لكنه توقف طويلًا أمام الظاهرة التي دفعت هذا الشاب ورفاقه من المطربين والمطربات إلى ذلك الوضع من الأساس.

لماذا ذلك الخوف من التحديث، حتى وإن استهدفت إجراءاته غرضاً أخلاقياً ودينياً مثل تسجيل القرآن الذي لم تعد قصة إنتاجه في أسطوانات خافية أو مدهشة في حد ذاتها، بيد أن اللافت في ذلك الطرح، هو الكيفية التي يتجاوز بها المجتمع ما خاضه من قلق أخلاقي باتجاه ظاهرة ما إلى التطبيع معه بكل تلك السهولة واليسر حتى تصير مع الوقت ممارسة روحانية!

يرى الخشاب، المفكر المصري وأستاذ الدراسات العربية في جامعة يورك الكندية، أن ذلك المثال وغيره مما أورده في محاضرته عبر تطبيق زووم، لا ينفصل عن "الخلاعة" بوصفها فعلاً وأداة قياس، عن مقدار تحضر المجتمعات، وأن الليبراليين والمحافظين على السواء يمكن أن يتموقعوا معًا ضد التحديث لأسباب أخلاقية، في صراع يتخذ طرفه النقيض العلمانيون الذين يدافعون عنه من منطق أخلاقي بالمثل.

وهو الأمر الذي يطرح كثيراً من الأسئلة عما يمكن وسمه بـ"مقياس الخلاعة"، و"أخلاقية/وجدانية" الليبرالية والعلمانية، وكذلك موقف رواد الفنون الذين أنتجوا "ثقافة"/"تسلية" ثم انقلبوا عليها بعدما لفظها المجتمع، مثل إتلاف أم كلثوم لأغنية "الخلاعة والدلاعة مذهبي"، أو إحراق فاطمة رشدي أحد أفلامها، أو ازدواجية سيد درويش في تعامله مع الحشيش بمدح تعاطيه وذمّه في الأغنية ذاتها. كما يثير أسئلة أيضًا عن الكيفية التي يطبع بواسطتها المجتمع علاقته مع الوسيط الإلكتروني، الذي لا نحتاج التاريخ لرصدها، فتكفينا نظرة إلى "تيك توك" وما أثاره من لغط، بداية من وصمه بأداة تستهدف نشر "الفحشاء"، مرورًا بإقبال النخبة نفسها على استخدامه وافتراضها طريقة للتعاطي معه بصورة أخلاقية.



عن تلك الأسئلة وما تثيره أفكار محاضرة وليد الخشاب كان لـ"المدن" معه الحوار التالي:

- تلجأ إلى تفسير تفاعل الإنسان مع الوسيط الإلكتروني من منطلق وجداني ديني، حين تشير مثلاً إلى أن الإنسان قد يشعر بالهلع مما تتيحه التكنولوجيا من إمكانات كان يقصرها فقط على خالقه

* لا أعدُّ المقارنة التي أوردتها بين الفضاء الافتراضي وسطوته في عصرنا هذا، والتصورات القديمة عن علم الدائرة الإلهية وحضورها وبطشها أو بسطها يدها، مقارنةً ذات طابع ديني، بل ذات طابع أنثروبولوجي. الإنسان يهاب الآلهة في العصور القديمة، ويهاب الإله الواحد القهار في العصور الوسيطة، ويهاب الدولة في كل العصور، والآن يهاب الفضاء الافتراضي.
فرضيتي هي أن موقف الإنسان حيال القوة المتسامية التي تواجهه، موقف أنثروبولوجي قديم متجدد. وهذه المقارنة تفسر -في رأيي- تكرار موقف هلع الإنسان تجاه ظهور كل وسيط تكنولوجي حديث. وهي تفسر بالتحديد الهلع الحديث من الوسائط ذات السطوة الفائقة مثل الإنترنت، لأن سطوتها تغطي كل سنتيمتر من حياتنا النفسية والبدنية، وبالتالي فإن سلطتها علينا كبشر تشبه شمول سلطة الدائرة الإلهية، من حيث تغطيتها وتغلغلها في فضاءات الحياة كافة. لكني أنظر لهذا التوازي بين سطوة الوسائط وسطوة الآلهة في القديم وسطوة الإله في عصر التوحيد، على أنه وصف لعلاقة الإنسان بالقوى الكبرى التي يتفاعل معها، سواء كانت الآلهة أو الوسائط أو الدولة أو رأس المال، فهي علاقة ليست دينية بالمعنى الروحي وإنما هي علاقة الفرد البشري بالآخر الكبير.

- المجتمع الذي يرفض أدوات التحديث في بداية ظهورها، خشية الوقوع في شرك "استعمال البدعة"، يطبع علاقته بها لاحقًا من منطق ديني أيضًا: حلاله حلال وحرامه حرام". أظنها قراءة تصلح لفهم مجتمع ما، متدين، وليس المجتمع العلماني

* المنطق هنا ليس دينيًا بالمعنى الدقيق، بل هو منطق ثقافي. تستخدم مجتمعاتنا المرجعية الدينية دائمًا كإطار لغوي وأداتي للتعامل مع العالم، لا كإطار فكري جامد. فمثلًا الخوف من أدوات التحديث ثم قبول أدوات التحديث، يتم في الحالين باستخدام مفردات دينية: رفض الحنفية من باب أنها بدعة، ثم قبولها في المذهب الحنفي من باب المصلحة. المهم هنا هو مواقف الرفض والقبول وهي مواقف ليست مبنية في الحقيقة على آلية تفكير ديني، وإنما على آلية تقبل الجديد أو تنفر منه، ثم تستخدم مفردات دينية في التعبير عن القبول أو النفور، لا لأن القبول أو الرفض مؤسسان دينيًا، بل هما مؤسسان أنثروبولوجياً في قرارة مَن يتبنون السيرورة والتغيير ومَن يتبنون الجمود والثبات. ثم يلجأ كلا الطرفين إلى معين لغوي/رمزي/ديني واحد للتعبير عن مواقفهما الأنثروبولوجية. وبالمناسبة، فنظرتي للمجتمع المصري والمجتمعات العربية عمومًا لا تعد هذه المجتمعات متدينة بالمعنى الروحي/الشعائري، بل بالمعنى الأنثروبولوجي، أي أنها مجتمعات تحترم التدين وتجله، لكنها لا تدقق بشدة في نوع الدين المعني. رأيي أننا نقدس التدين، أي الممارسة الشعائرية كسلوك وكجزء من العادات الأنثروبوولوجية، لا بمعنى الإيمان بدين محدد وممارسة لدين محدد، والله أعلم.

- لم توضح الورقة طرحك لمسألة أن "التنوير ليس أخلاقيا بالطبيعة"، فهل لي ببعض الشرح؟

* التنوير لا هو أخلاقي ولا هو غير أخلاقي بالطبيعة. هو خطابات وتيارات وممارسات قد يتسم بعضها بالأخلاقية، وقد يشجع بعضها على التحلل من منظومة القيم التقليدية أو الدينية. التنوير حلاله حلال وحرامه وحرام! فقط أنتقد مَن يتبنى أية أطروحة باسم التنوير لمجرد أنها قادمة مع باقة التنوير، ويعدها إيجابية أخلاقيًا لمجرد ارتباطها بالتحديث. وبالطبع كذلك أنتقد من يرفض أي تحديث لمجرد أنه تحديث ويعتبره بالضرورة لا أخلاقيًا. فمثلًا التحرر الأخلاقي المرتبط بالتنوير لا أدينه، لكنني أدين التحرر الأخلاقي الذي يصل إلى حد الدعوة لعرض الأفلام البورنوغرافية في شاشات التلفزيون الوطني. ولا أدين التلفزيون لأنه يحمل إمكانية عرض أفلام بورنوغرافية، لكني كذلك لا أكتفي بالتهليل لدخوله كافة البيوت مثلما دخل في الكل البلاد الحديثة، فالدور الدعائي والقمعي لصالح الدولة المركزية الذي تلعبه مؤسسة التلفزيون في الغرب كما في الشرق، هو دور لا بد من تناوله بنظرة ناقدة.

- بالنظر إلى مثالَي إتلاف فاطمة رشدي لفيلمها "تحت سماء مصر"، وأم كلثوم لـ"الخلاعة مذهبي"، يمكن أن نقول إنهما أنتجا فنهما حين سمح المجتمع به، وانقلبتا عليه حين رفضه؟ بصيغة أخرى لا يمكن التعويل على "التنويريين" لإحداث نهضة مجتمعية؟

* المجتمع يسمح بوجود الخلاعة، لكن في فضاءات محصورة. ولهذا سمح المجتمع بإنتاج ذلك الفيلم وتلك الأغنية. المشكلة ظهرت لما بدا واضحاً لمنتجي هذين العملين أن درجة الخلاعة فيهما تحرمهما من الدخول إلى فضاءات "محترمة". فأغنية "الخلاعة مذهبي" كانت ستظل مقصورة على سوق الأسطوانات ولم تكن لتنتشر في محطات الإذاعة، والفيلم كان سيعرض على نطاق ضيق لكن كثيرًا من صالات العرض كانت سترفضه. فالأخلاقية التي تمثلت في تدمير العملين هي أخلاقيات رأسمالية لا أخلاقيات محافظة. ونعم، لا يمكن التعويل على التنويريين أو الظلاميين أو الدولتيين، لإحداث نهضة مجتمعية. تحدث النهضة حين تتوافر لها العوامل المهيئة المادية، المتمثلة في اعتناق قطاعات عريضة من المجتمع لأخلاقيات التنوير، أي لقبول التنوير كفاعل له مميزاته الأخلاقية -وإن كانت غير مطلقة- في المجتمع.

- تقول إنه يمكن فهم المجتمع من خلال الخلاعة. هل نقول إن قبوله بالخلاعة علامة "حداثة"/"نهضة". وكيف يمكن قياس قدر الخلاعة حاليًا وإلامَ يشير ذلك؟

* المنطق الذي أفترضه في دراستي عن الخلاعة في عصر النهضة المتأخرة، هو أن الخلاعة كممارسة، مرتبطة ببعض الفضاءات مثل فضاء الملهى الليلي، وكنوع من الأنواع العابرة لممارسات فنية عديدة مثل الغناء والتمثيل في المسرح والسينما، يمكن أن تكون مؤشرًا على مدى قلق المجتمع من التحديث، بسبب وجود اعتقاد راسخ لدى شرائح كبيرة منه بأن الحداثة، أو النهضة -بتعبير نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين- تهدد الأخلاق القويمة في المجتمع. لكن المعيار ليس مقدار الخلاعة التي يتقبلها المجتمع، فالمجتمعات العربية جميعًا تخصص مساحات للخلاعة، بما فيها مثلاً صناعة الجنس، حتى في أعتى الدول محافظة. المعيار هو حجم وتنوع وتغول المساحات المخصصة للخلاعة، لا مقدار الخلاعة في حد ذاتها.

عند ظهور السينما، لم يكن هلع "علية القوم" من قدر العري في الرقص الشرقي مثلًا، بل من قدرة ذلك الرقص على الدخول إلى فضاءات الأرستقراطية والطبقات المتشبهة بها، ومن احتمال وصوله إلى داخل البيوت "المحترمة" إذا ما اشترى مَن يستطيع آلات عرض منزلي (وهو ما حدث سريعًا بعد اختراع السينماتوغراف في نهايات القرن التاسع عشر). لكن بشكل عام، ما قد تراه بعض الطبقات خلاعة، قد تراه أخرى تحديثًا. مثال ذلك تغلغل الرقص الغربي الراقي، على أنغام الفالس مثلًا. عندما قامت الطبقات الأرستقراطية ثم الوسطى باستيراد الفالس وممارسته، كانت هذه الطبقات ترى فيه خيرًا أخلاقيًا، لأنه تقليد للغرب المتقدم والذي يمثل نموذجاً سلوكيًا أعلى. بينما رأت طبقات أخرى شعبية أن ذلك الرقص خلاعة لأنه يفترض أن يحتضن رجل، امرأة أجنبية، ويراقصها، كما أن الرقص عادة يتم ليلًا وترتدي النساء ملابس سواريه تكشف أجزاء كبيرة من أجسادهن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها