الأحد 2024/03/17

آخر تحديث: 07:11 (بيروت)

هل الكنائس قابلة للإصلاح؟

الأحد 2024/03/17
هل الكنائس قابلة للإصلاح؟
الكنيسة لم تكن يوماً أسيرة الخوف من الانشقاقات
increase حجم الخط decrease
حين رفع المطران راينهارد ماركس، مطران أبرشيّة ميونيخ وفرازينغ، العام 2021 استقالته إلى البابا فرنسيس، أشار في رسالته إلى رأس الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ دافعه الأساسيّ لمثل هذه الخطوة هو أنّ ما تواجهه الكنيسة الكاثوليكيّة اليوم ليس مجرّد مجموعة معضلات يمكن معالجتها إداريّاً ورعويّاً، بل ثمّة أيضاً أرضيّة لاهوتيّة ذات طابع بنيويّ ينبغي العمل على تفكيك عقدها حتّى تستقيم أمور الكنيسة. لا ريب في أنّ المطران ماركس كان يومئ آنذاك إلى موقف الكنيسة الرومانيّة من عدد من القضايا الأخلاقيّة والسلوكيّة كالجنس على وجه العموم، ومفهوم العائلة والنظرة إلى البتوليّة والمثليّة الجنسيّة وقضايا الجندرة خصوصاً. لكن ما لم يقله المطران ماركس في رسالته أنّ ما رآه يخصّ الكنيسة الكاثوليكيّة ينسحب أيضاً، وإن بنسب متفاوتة، على سائر الكنائس. 

القضيّة، إذاً، لا تتّصل بالمسائل التفصيليّة، بل تحيلنا على المبدأ العامّ: العمليّة التغييريّة في الكنائس أنّى لها أن تفضي إلى إصلاح حقيقيّ ما لم تذهب إلى مساءلة عدد من البنى اللاهوتيّة التي أضحت اليوم في صلب مشكلة المؤسّسة الكنسيّة بفعل التبدّلات العميقة في النموذج العقليّ والنفسيّ والفكريّ والثقافيّ التي أطلقتها الحداثة وما يُعرف بالحداثة المتأخّرة، أو ما اصطلح بعضهم على تسميته حقبة ما بعد الحداثة. أن تكون هذه المعضلة البنيويّة غير مقتصرة على الكنيسة الكاثوليكيّة، بل تمتدّ أيضاً إلى الكنائس الأرثوذكسيّة، وإلى حدٍّ ما البروتستانتيّة، هو أمر عبّر عنه المطران اليونانيّ غريغوريوس باباتوماس، مطران بيريستيري من أعمال أثينا وأستاذ القانون الكنسيّ في جامعتها وفي معهد القدّيس سرجيوس اللاهوتيّ في باريس، حين أعلن إبّان مؤتمر علميّ في العاصمة اليونانيّة الخريف الماضي أمام مئات من الاختصاصيّين وغير الاختصاصيّين، بكلمات صارخة، أنّ «الكنيسة انتهت». وحين سئل عمّا كان يقصده، قال إنّه لم يكن يشير إلى قدرة يسوع المسيح على التأثير في المجتمعات واستنهاض المسيحيّين، والبشر عموماً، إلى ديناميّات مستوحاة من الإنجيل، بل إلى نهاية الكنيسة من حيث ما يجب أن تتّسم به من قيمة ومعنى في امتدادها التاريخيّ. لئن كان كلام المطران يتّصل، بالدرجة الأولى، بواقع الكنيسة اليونانيّة التي يعرفها حقّ المعرفة، إلّا أنّه يفصح بالتأكيد عن أزمة في الكنائس تتخطّى السياق اليونانيّ المحلّيّ. 

أن تخوض الكنائس العمليّة الإصلاحيّة من دون مراجعات لاهوتيّة عميقة يرفدها استنجاد جدّيّ بالعلوم الإنسانيّة الحديثة، بحيث تجرؤ على الحفر طمعاً في بلوغ أصل الداء، هذا يجعلها، بمعنًى ما، في موقع الأمين العامّ السابق للحزب الشيوعيّ السوفياتيّ ميخائيل غورباتشوف، الذي حاول إصلاح «النظام»، فإذا به ينهار بين يديه، إذا جاز التعبير، لكونه عاد غير قابل للإصلاح من الداخل وبحسب منطقه الداخليّ. والحقّ أنّ أبرز التحدّيات التي طُرحت على ضمير المؤسّسة الكنسيّة منذ عصر النهضة حتّى اليوم، من التحدّي الفيزيائيّ والبيولوجيّ (نظريّة النشوء والارتقاء) مروراً بالعبوديّة وضرورة إلغائها وصولاً إلى حقوق الإنسان، بما فيها حقوق النساء، كانت تحدّيات مصدرها الخارج، أيّ حركيّة المجتمع، لا الديناميّات اللاهوتيّة. حتّى حركة الإصلاح، التي أدّت إلى نشوء الكنائس الإنجيليّة، ولعلّها أهمّ حركة إصلاحيّة ذات منطلقات لاهوتيّة في تاريخ الكنيسة، ما كان ليتسنّى لها أن تنجح لولا السياق الثقافيّ الذي احتضنها، ولا سيّما التيّار الإنسانويّ واختراع الطباعة. 

ربّما يقول قائل إنّ أيّ حركة إصلاحيّة بعيدة المدى والأثر ستفضي بالضرورة إلى انقسامات وانشقاقات، ولذا الكنائس في غنى عنها. ألم يكن هذا حال الكنيسة الأنغليكانيّة حين قبلت المثليّة، فانشقّ بعض أعضائها المحافظين وانضمّوا إلى الكثلكة والأرثوذكسيّة؟ أليس هذا حال الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة اليوم، التي اتّخذت قراراً بالانسحاب من الحوار مع الكنيسة الكاثوليكيّة بسبب الرسالة البابويّة التي تبيح للكهنة الكاثوليك إسباغ نوع من بركة على «الأزواج» المثليّين؟ طبعاً، هذه كلّها محاذير يجب أخذها في الحسبان. غير أنّ الكنيسة لم تكن يوماً أسيرة الخوف من الانشقاقات حين يتّصل الموضوع بالشهادة لما تعتبره حقّاً، ويدلّ على ذلك التاريخ الكنسيّ في غير محطّة. يضاف إلى ذلك أنّ مراجعة بعض العمارات اللاهوتيّة التي تتّصل بتأويل الكتاب المقدّس أو بما يُعرف بالإرشاد، أو المتابعة الروحيّة، ليس له أن يسوق بالضرورة إلى انشقاقات إذا تمّ تعميم ثقافة الحوار الهادئ والمعمّق كخطوة أولى ضروريّة يتبعها إشراك أكبر عدد ممكن من أعضاء الكنائس في آليّات صنع القرار واتّخاذه. أن تتحوّل ثقافة الحوار إلى ثقافة كنسيّة تخترق أبعاد الحياة الكنسيّة كافّةً، ربّما يكون هذا القاعدة الضروريّة لعمليّة إصلاحيّة يبدو أنّه لا مناص منها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها