الأحد 2024/02/25

آخر تحديث: 08:48 (بيروت)

عن آل ملتقى والزمان الذي اندثر

الأحد 2024/02/25
عن آل ملتقى والزمان الذي اندثر
أنطوان ملتقى
increase حجم الخط decrease
في النصف الأوّل من ثمانينات القرن الماضي، قرّر تلفزيون لبنان أن يعيد عرض عمل تلفزيونيّ بعنوان «عشرة عبيد زغار» من إخراج جان فيّاض وإعداد لطيفة وأنطوان ملتقى مع جمهرة من الممثّلات والممثّلين ينتسبون إلى ما كان يُعرف آنذاك بفرقة «المسرح الاختباريّ». كيف تحوّل هذا العمل التلفزيونيّ إلى الشغل الشاغل لعشرات المراهقين في مدرسة «الحكمة» في بيروت، حتّى إنّهم كادوا ينسون، لبضعة أسابيع، «عواصف» جبران خليل جبران ورواية آلان فورنييه اليتيمة «مون الكبير» (Le grand Meaulnes) والمعادلات الجبريّة ذات الدقّة الأسطوريّة؟

الجواب غاية في البساطة. فهذه الأيّام المسكونة بشبح الحرب الأهليّة، والتي تكاد تغيب فيها وسائل الترفيه، كانت أيضاً أيّام القناة التلفزيونيّة الواحدة، أو القناتين على الأكثر. وكان بنو ذلك الزمان وبناته لا يعرفون الهاتف الجوّال واليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعيّ. لعلّه زمن اندثر إلى غير رجعة. ولعلّ الكثير ممّا يختزنه سيبقى عصيّاً على الذاكرة. فإذا قيّض للذاكرة أن تستعيده، بقي بعضه عصيّاً على اللغة واحتمالات اللغة حتّى تنكسر الذكريات وينهمر الدمع. 


لكن ربّما كان هناك سبب آخر لهذا الانهماك المدوّي بالعبيد العشرة الصغار، هذه الحكاية البوليسيّة الآسرة المقتبسة من إحدى روايات أغاتا كريستي. فواحد من هؤلاء الشبّان اليافعين كان يدعى زاد ملتقى، وكان ابن لطيفة وأنطوان ملتقى. هذا المراهق ذو الجسد النحيل والحركات الهادئة كان يعزف البيانو. يحبّ باخ وشوبان وشوبرت، الذين كان يتعاطاهم بشكل يوميّ، وتستغلق عليه عوالم فيروز وأمّ كلثوم ومحمّد عبد الوهاب. يتعلّم الألمانيّة ويكتب بعضاً من جملها على مقلمة صاحب له يجلس إلى جانبه في الصفّ، ولا يتكلّم كثيراً على عائلته. وحين كان أحد أساتذة اللغة العربيّة يقول له إنّ اسمه عربيّ جميل، يجاوب أنّ لطيفة وأنطوان ملتقى سمّياه على اسم إله سومريّ. فيصمت الأستاذ وقد أصيب بشيء من صدمة لغويّة.

غير أنّ المراهق الذي يحمل اسماً سومريّاً لم يكن يخفي إعجابه بالبرنامج التلفزيونيّ الذي شغل الدنيا وملأ الناس طوال فصل كامل في تلك البقعة الصاخبة من بيروت. والحقّ أنّ هذا العمل، على الرغم من الإمكانات المتواضعة المتوافرة لمخرجه ومُعدَّيه، كان مميّزاً من حيث مقاربته الإخراجيّة، ذكيّاً في عمليّة الانزياح التي نفّذها أنطوان ولطيفة من الرواية إلى المسرح ومن المسرح إلى التلفزيون، ومذهلاً من حيث الأداء التمثيليّ «للعبيد»، الذين يتساقطون قتلاً الواحد تلو الآخر فيما هم يتحوّلون إلى أسرى متاهة سيكولوجيّة تجعل كلّ واحد منهم يرتاب في رفيقه ويحسبه قاتلاً. فإذا قرّر أحدهم، ذات يوم، أن يكتب حكاية الأعمال الكبرى التي صنعت تاريخ تلفزيون لبنان في زمن كانت فيه الموهبة البشريّة أهمّ بكثير من الإمكانات التقنيّة وكان الممثّلون العباقرة يولدون ممثّلين من بطون أمّهاتهم، فإنّ «عشرة عبيد زغار» لأنطوان ولطيفة ملتقى سيكون بالتأكيد واحداً من هذه الأعمال. 

ظلّت مدرسة «الحكمة» في أشرفيّة بيروت صديقة الأعمال الفنّيّة التي كانت تقدّمها لطيفة وأنطوان ملتقى. ذات يوم، حجّت مدرستنا، بكامل عدّتها وعديدها، إلى «مسرح مارون النقّاش» كي تشاهد عملهما المسرحيّ اللافت «نقطة على السطر». لكنّ الفتى الذي يعزف البيان ما لبث أن غادر بيروت إلى باريس كي يتابع دراسة الموسيقى هناك آخذاً معه اسمه الآتي من بلاد الرافدين وبعضاً من ذكرياتنا. وحين طفق يؤلّف الموسيقى، كانت هذه غالباً ما تختطّ لذاتها مسالك ومنعرجات غير مألوفة كأنّها تسعى إلى تشكيل ذائقة جديدة. لعلّه اليوم، في وداع والده العظيم، يكتظّ بهذا الحزن الذي يحفر كالمسمار في نفوس البشر حين يغادر والدوهم. أمّا نحن الذين ننظر من بعيد، فنذرف دمعةً مالحةً لا على عبقريّ آخر يرتحل فحسب، بل على أويقات حرّى من زمان تلاشى واندثر، وأنّى له أن يعود.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها