الأحد 2024/02/25

آخر تحديث: 08:56 (بيروت)

"حيوات سابقة" لسيلين سونغ.. بساطة بلا تبسيط

الأحد 2024/02/25
"حيوات سابقة" لسيلين سونغ.. بساطة بلا تبسيط
فيلم قوّته في رقّته
increase حجم الخط decrease
يبدو فيلم "حيوات سابقة" للمخرجة الكندية الكورية سيلين سونغ مستضعفاً و"غلباناً" في سباق جوائز أوسكار المجنون والمحتدم بين أسماء كبيرة ووازنة ومشهورة طامحة لنيل التمثال الصغير. فيلمٌ أول لمخرجة وافدة من عالم المسرح، يستقي قصّته من سيرتها الذاتية، ويتابع حكاية "صغيرة"عن حبّ لا يكتمل وأشواق لا تُنجز. لكنه يرتقي فنياً وسينمائياً كونه يتمتّع بميزة كبيرة أصبحت - شيئاً فشيئاً – نادرة في أيامنا: أن يكون عملاً بسيطاً من دون أن يصبح تبسيطياً. أخيراً، فيلم يحكي ببساطة قصة دقيقة جداً عن الحياة، من دون أجندات مسيّسة أو لافتات كبيرة.

عبر مشهد افتتاحي آسر وظّف أداة سيناريو بارعة، يثير المشهد الأول من الفيلم الفضول ويؤسّس لإحدى أفكاره الأساسية: يمكنك دائماً اختراع قصص بديلة لكل فرد أو مجموعة أفراد. حول طاولة إحدى الحانات، في الساعات الأولى من الصباح، يجلس ثلاثة أشخاص في الثلاثينيات من العمر جنباً إلى جنب:رجل آسيوي وامرأة آسيوية ورجل "غربي". من طاولة بعيدة، يتساءل زوجان لا نراهما عن هويتهم وما يربطهم وطبيعة علاقتهم. يصوغان فرضيات مختلفة، كما لو كانا متفرجين (مثلنا) أمام الشاشة في بداية الفيلم.

سيظهر المشهد نفسه مرة أخرى في النهاية، عندما نكون قد عرفنا بالفعل من هي الشخصيات الثلاث ونسمع ما كانوا يتحدثون عنه. وكأن الفيلم قد طوّر إحدى الفرضيات المطروحة. وإلى أن يصل إلى تلك النقطة مرة أخرى، سيكون السرد قد عاد إلى ثلاث مراحل: قبل 25 عاماً، وقبل 24 عاماً، وقبل 12 عاماً...

يبدأ كل شيء في سيول، عندما كان الصبي هاي سونغ والفتاة يونغ نا زميلين في المدرسة وعاشقين تقريباً. لكن هذه القصة الرومانسية تنقطع عندما تهاجر "يونغ نا" مع عائلتها إلى كندا وتغيّر اسمها لاحقاً إلى "نورا". بعد 12 عاماً، ستشارك نورا (غريتا لي)، الكاتبة المسرحية الطموحة، في إقامة فنية بالقرب من نيويورك، بينما على الجانب الآخر من العالم سيؤدي هاي سونغ (تيو يو) خدمته العسكرية.

ليس خافياً إمكان توقّع المراحل التالية من هاتين الحياتين المتوازيتين، باتصالهما في مرحلة ما عبر الإنترنت ومن ثمّ من خلال لقاء "وجهاً لوجه". يكفي القول إن مسرحية دقيقة تتمحور في هذه الميلودراما الميلانكولية حول مفهومي الصدفة والقدر، المكثّفان بدورهما في المصطلح الكوري "إن يون"، والذي يأتي وفقاً لنورا من البوذية ويعني شيئاً مثل القدر أو العناية الإلهية، ليردّد صدى لقاءات وأرواح وفرص فائتة في حيوات سابقة/ماضية.

ووفقاً لفكرة نشأت في ثقافات الشرق الأقصى، فإن روحين منذورتين لبعضهما البعض إما أن تترابطا بشكل دائم في سياق تناسخ الأرواح، أو تفوّتان بعضهما البعض باستمرار، اعتماداً على ما إذا كانت الظروف الخارجية تناسب وجودهما الحالي أم لا. في الفيلم، تلعب هذه الفكرة دوراً مهماً. لا يعتقد هاي سونغ ويونغ نا بالضرورة أن هذا صحيح، لكن في محنة علاقتهما التراجيدية يحاولان إيجاد العزاء فيها. على الأقل في حياة أخرى يمكنهما تخيّلها، سيصبحان في علاقة عاطفية. لكن ليس في وجودهما الحالي، الذي اتخذ أول منعطفٍ فادح في نهاية التسعينيات.

ولكن ما يمكن أن يكون له وزن الأمثولة الفلسفية يذوّبه السيناريو بشيء من النعومة والسخرية في أحد أكثر مشاهد الفيلم رومانسيةً وكوميدية. عندما تلتقي نورا بشابٍّ يهودي أميركي في بيتٍ ريفي لطيف للفنانين، تقول هي نفسها، بعد شرحها إياه معنى الـ"إن يون"، "إنه شيء يقوله الكوريون لإغواء شخص ما". بخفة الروح هذه تُسرد قصّة حبّ لم تتحقق، مثلها مثل عديد القصص الأخرى في الأدب والسينما. حياة كان من الممكن أن تكون، لكنها لم تكن.

وإدراكاً منها لهذا التقليد الممتد في التاريخ الأدبي والثقافي، تلعب سيلين سونغ بإشارات وإحالات متكررة من أفلام الحبّ، وتلوّنها أحياناً عبر سخرية أو إزاحات صغيرة. أحد الأمثلة: في جولتهما في نيويورك، وصلت نورا وهاي سونغ إلى مدينة ملاهٍ. ولكن بدلاً من المشهد المبتذل للعاشقين اللذين يقضيان وقتاً ممتعاً على متن السفينة الدوَّارة أو تناول الحلوى، يجلسان أمام عربة دوّارة حزينة نصف مهجورة ويتحدثان عن الأوقات التي قضتها نورا هناك مع زوجها آرثر (جون ماغارو). أثناء قيامهما برحلة بالقارب في نهر هدسون، يمرّان بتمثال الحرية، لكن هاي سونغ يعلّق قائلاً: "إنها تدير ظهرها إلينا".

بالامتداد، هناك دائماً توازن بين الواقع والخيال في هذا الاسكتش الروائي المؤفلم. في السرير مع نورا، يتخيّل آرثر (وهو كاتب مسرحي أيضاً) ما يعيشانه على شكل قصة أدبية، يلعب فيها دور الزوج الدخيل الذي يقطع طريق عاشقي الطفولة. السخرية مريرة، لكنها لا تفقد خفة وروح الدعابة. أيضاً، موضوع التباين الثقافي بين كوريا والولايات المتحدة ليس ثانوياً، بل في قلب هذه الدراما الصغيرة والحميمة. في مرحلة ما، تعمل نورا كمترجمة بين آرثر وهاي سونغ. وعن الأخير، تقول لزوجها: "إنه كوري جداً. أشعر بأنني غير كورية عندما أكون معه. ولكنني أيضاً، بطريقة ما، أصبح كورية أكثر".

يتقدّم السرد في توازن بين الديكوباج الكلاسيكي "الغربي" ولحظات التأمّل والصمت التي تميّز جانباً معتبراً من السينما الآسيوية، حيث تكتسب "الأزمنة الميّتة" حياة ومعنى. لكن السينما تدور أولاً وقبل كل شيء حول الصور، وفي "حيوات سابقة" هناك واحدة تلخصّ الدراما بأكملها: مفترق طرق، في إحدى ضواحي سيول، ينفصل عنده الصديقان في طريق عودتهما من المدرسة، يتسلّق "هاي سونغ" الصغير المنحدر على اليسار، بينما الصغيرة "يونغ نا" تصعد الدرج على اليمين. تعود هذه اللقطة، للحظة عابرة، أثناء محادثة بين الاثنين بعد ربع قرن في شارع نيويوركي. زمنٌ مصوَّر (إذا استخدمنا تعبير جيل دولوز بشكل فضفاض)، شِعر مرئي، انفجار باطني. سينما شعرية تنبثق وسط نثر حياة عادية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها