الأحد 2024/02/18

آخر تحديث: 08:14 (بيروت)

الكنائس والمثليّة: هل من جديد؟

الأحد 2024/02/18
الكنائس والمثليّة: هل من جديد؟
increase حجم الخط decrease
ما زالت قضيّة المثليّة الجنسيّة تتفاعل في الكنائس وخارجها. فبعد سماح الكنيسة الكاثوليكيّة لكهنتها، أواخر العام الماضي، بإعطاء الأزواج المثليّين شكلاً من أشكال البركة الكنسيّة، صادق البرلمان اليونانيّ، قبل بضعة أيّام، على المساواة في الحقوق والواجبات بين الزواج التقليديّ بين رجل وامرأة من جهة، والشركة بين شخصين مثليّين من جهة أخرى. ردّ فعل الكنيسة اليونانيّة الرسميّة كان تهديد المشرّعين الذين صوّتوا لهذا القانون بالحرم الكنسيّ. 

أثارت خطوة الكنيسة الكاثوليكيّة كثيراً من الجدل. والحقّ أنّ هذه الممارسة لم تكن جديدةً على الكاثوليك في ألمانيا وبلجيكا وربّما في دول أوروبيّة أخرى، إذ كان كُثُر من الكهنة يقومون بها من دون الرجوع إلى أساقفتهم أو بموافقة ضمنيّة من هؤلاء. ما قامت به الكثلكة الرسميّة، إذاً، هو تبديد الالتباس القائم وتكريس ممارسة شائعة في عدد لا يستهان به من الرعايا في أوروبّا الوسطى. في الوثيقة الرسميّة التي تناولت المسألة، تؤكّد الكنيسة الكاثوليكيّة أمرين: أوّلاً أنّ موقفها التقليديّ من المثليّة الجنسيّة لم يتغيّر، وثانياً أنّ ثمّة اختلافاً جذريّاً بين سرّ الزواج، الذي لا يمكن إعطاؤه إلّا لرجل وامرأة، والبركة، التي يمكن منحها لأيّ إنسان. ترى الكثلكة، إذاً، أنّ ما قامت به من إعادة تموضع، إذا جاز التعبير، هو موقف رعائيّ تدبيريّ هدفه استدخال المثليّين، عوضاً عن إقصائهم، ولا يمسّ جوهر العقيدة. بيد أنّ هذه الحجّة اللاهوتيّة، على حذاقتها، لا تقلّل من أهمّيّة التبدّل الذي يمكن أن يستتبعه مثل هذا القرار. فالمجتمعات غالباً ما لا تلتفت إلى المنطلقات اللاهوتيّة بقدر التفاتها إلى المشهد الذي يصاحب ظهور المثليّين في العلن. وهذا المشهد سيتغيّر بطبيعة الحال إذا بات متاحاً لأيّ «زوج» مثليّ، كائناً ما كان البلد الذي يعيش فيه، أن يقف في حضرة كاهن كاثوليكيّ كي ينال منه بركةً تمنحها الكنيسة. 

تترجّح الكنيسة الأرثوذكسيّة الرسميّة، في غالبيّة مواقفها من المثليّة الجنسيّة، بين قطبين هما اعتبارها خطيئةً أو مرضاً. ولعلّ أكثر مواقفها من المثليّة «تقدّماً» نعثر عليه في رسالة رعائيّة وجّهها الأساقفة الأرثوذكس في ألمانيا إلى الشبيبة العام ٢٠١٧، وتطرّقوا فيها إلى قضايا الحبّ والجنس والزواج. تمتاز هذه الرسالة بأنّها علّقت كلّ حكم قيميّ على المثليّة الجنسيّة معتبرةً أنّها ظاهرة يشكّلها خليط من عوامل بيولوجيّة ونفسيّة ومجتمعيّة، لكنّنا لا نلمّ بها بدقّة على نحو يتيح للكنيسة إطلاق رأي نهائيّ في الموضوع. فضلاً عن ذلك، دعا الأساقفة الأرثوذكس إلى التصدّي لكلّ شكل من أشكال التمييز اللاحق بالمثليّين في رعاياهم وفي المجتمع، مع التأكيد أنّ سرّ الزواج، من حيث مفهومه وجوهره، لا يمكن إعطاؤه إلّا لزوج يتألّف من رجل وامرأة. هذا في اللاهوت. لكنّ ديناميّة المجتمع أقوى من الحجج اللاهوتيّة.

بكلمات المثلّث الرحمة البطريرك إغناطيوس هزيم: «الحياة أقوى» من شؤون اللاهوت وشجونه. ولعلّ بعض أهمّيّة قرار البرلمان اليونانيّ، واليونان بلد ذو ثقافة أرثوذكسيّة، يكمن في قدرته على تغيير المشهد المجتمعيّ. والحقّ أنّ هذا المشهد آخذ بالتبدّل هناك منذ زمن ليس بقليل. فالعلاقات الجنسيّة من خارج شركة الزواج تحوّلت إلى أمر مألوف إبّان سبعينات القرن الماضي. ولئن كان معظم اليونانيّين ما زالوا يحرصون على تعميد أولادهم، إلّا أنّ نسبة الزواجات المدنيّة التي لا يعقبها زواج كنسيّ ارتفعت بشكل مطّرد إبّان السنين المنصرمة. ربّما يعتبر بعضهم أنّ المجتمع اليونانيّ يمعن في «التدهرن». لكنّ هذه الدهرنة لها عنوان آخر هو الحرّيّة الفرديّة وتراجع الثقة بالمؤسّسة الكنسيّة.

مع مطلع الألفيّة الثالثة، أعلن البطريرك الرومانيّ المثلّث الرحمة ثيوكتيست أنّ المثليّة الجنسيّة لا تنتسب إلى تراث الشعب الرومانيّ (الأرثوذكسيّ في غالبيّته) وتقاليده. آنذاك، كان المثليّون يتظاهرون في شوارع رومانيا، المتشوّفة إلى دخول المجموعة الأوروبيّة، مطالبين بمحو التمييز والتهميش اللذين لحقا بهم طوال قرون. بالأمس، وفي دولة أخرى تتّصف بتراثها الأرثوذكسيّ العريق هي اليونان، أقرّ البرلمان المساواة في الحقوق بين شركة الزواج والشركة المثليّة. وترافق هذا مع اعتراض المؤسّسة الكنسيّة وتهديدها المشرّعين بالحرم والطرد من الكنيسة. فيما يسجّل المثليّات والمثليّون «انتصاراً» تلو آخر، يتعمّق الشرخ بين الكنيسة والمجتمع، ويهدّد بالتحوّل إلى هوّة يصعب ردمها. بعضهم ينتفض، وبعضهم يبكي، وبعضهم يقهقه، وبعضهم يكتب على حسابه الإلكترونيّ: «القافلة تسير والكلاب تنبح». أمّا الحكماء، فقابعون في بيوتهم. وهم إمّا يستغيثون ولا يبالي أحد بهم، أو يصمتون ولسان حالهم أنّ لا رأي لمن لا يطاع.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها