الأربعاء 2024/02/14

آخر تحديث: 11:16 (بيروت)

محمد عبدالرازق لـ"المدن": غيّبتُ المكان خشية الرد العنيف للمجتمع

الأربعاء 2024/02/14
محمد عبدالرازق لـ"المدن": غيّبتُ المكان خشية الرد العنيف للمجتمع
"ما حدث ليس نزعاً لرقابة المجتمع الريفي على أبنائه بالتمدين، وإنما هو تمدين مزيف"
increase حجم الخط decrease
في روايته الأحدث "بياض على مد البصر"(**)، يحاول الروائي المصري محمد عبد الرازق (28 سنة) تقصي حادث قتل في إحدى القرى الواقعة على تخوم الدلتا (شمالي القاهرة)، ورغم أنها عمله الثاني فإنها تعكس امتلاك الكاتب الشاب أدوات سردية محكمة، استطاعت أن تعوض بعض أخطاء البناء والدراما التي شابت حكايته.

تستدعي الرواية إلى الذهن قرية يوسف إدريس، لكن عبد الرازق يكتب عمّا اختبره بنفسه مع بداية انفتاح الريف على الإرهاصات الأولى للتكنولوجيا والاطلاع على العالم في بداية الألفية، ويستخدم معرفته كطبيب في تشريح مجتمعه المنغلق، الذي تصفه الروائية منصورة عز الدين في تقديمها للنص "كمن يغرس سكينًا في جرح مفتوح، لكن القسوة ليست دافعه، بل الحنان والتعاطف".

عن الرواية والبناء الأدبي والرقيب المجتمعي كان لـ"المدن" معه هذا الحوار:

- أنجزتَ الرواية خلال ورشة للكتابة، وقد يرى البعض يرى أن "المدرسية" تضر بالأدب أكثر مما تفيده.

* المدرسية البحتة في رأيي، ضد المبدع، الذي لا يرضي غروره سوى الحرية والخروج على القواعد المعروفة والتلاعب بالثيمات والأبنية المختلفة للسرد، وهو ما يتناقض مع "المدرسية" تمامًا. أما الورشة التي خضتها، واستغرقت ستة أشهر، فكانت مجموعة للمناقشة أكثر منها فصلًا دراسيًا بين معلم وتلاميذه. كان الهدف الأساس هو إنجاز روايات تشترك فقط في تيمة "الجريمة الأدبية"، وهو genre غير مطروق بكثافة في الرواية العربية. في الورشة مُنح كل فرد المساحة لنسج روايته تبعًا لأفكاره وتصوراته، مع بعض ملاحظات إرشادية من المسؤول، في ما يشبه دورًا تحريريًا أثناء الكتابة فقط.

- إذن، ووفق تجربتك، هل يمكن اعتبار الورش الإبداعية بديلًا للمحرر الأدبي؟

* لا أعتقد أن الورش بديل للمحرر الأدبي إطلاقًا. مشكلة النشر في مصر افتقاده لكثير من عناصر العملية وخطواتها. كروائي، أؤمن بدور المحرر الأدبي، ولا بد من عين فاحصة، تقرأ النص في مسودته الأولى وتمنح الكاتب ملاحظات عن اللغة، والبناء، والاختيارات الفنية المختلفة، وغيرها مما يخرج النص في أكثر صُوره نضجاً وكفاءة. وحقيقة، لا أفهم لماذا توصم مهنة المحرر عندنا بأنها بلا قيمة، رغم أهميتها وفعاليتها في آلة النشر الغربية.

- هل تعني بشكل ما أنك احتجت ذلك النوع من المحرر وفق شكله الغربي؟ مثلًا تضمنت الرواية (صغيرة الحجم نسيبًا) شخصيات حازت مساحة لا بأس بها من السرد، وسمّيت أخرى بأسماء واضحة، ما أوحى بأدوار مفترضة في تحريك الأحداث، لكن وجودها الفعلي كان غير مؤثر؛ حسن وعبد الستار كمثالَين.

* لا أعتقد ذلك. تقول النصيحة النقدية: إذا وصفتَ مسدسًا في الغرفة فلا بد أن يُستخدم. وفي رأيي أن كل المسدسات ليست للقتل، وإنما بعضها مسدسات صوت، أو ألعاب، أو ديكور. ويمكن التعامل مع الرواية وفق تلك النصيحة. أيضًا تبدو شخصية المدمن متناقضة من حيث البناء، فتناول حبتَي ترامادول يوميًا لا يجعله مدمنًا بحساب المرض النفسي والقبول المجتمعي على السواء، ولا يصنعان التأثير المادي الضخم في دخله. ولم ينشغل الراوي ببيان تأثير الإدمان في علاقته بعائلته كذلك. لدى البطل سلوكيات "ما قبل إدمانية"، مع تركيبة انهزامية بسبب بيئة العمل وبقايا من الطفولة ومشكلات زواجه، تحركه هذه التركيبة لأفعال معينة، وربما دفعه إلى الحدث الأساس في الرواية. في رأيي أن سلوكيات الإنسان وردود أفعاله لا يمكن وضعها في كاتالوغ أو منطقتها بشكل تام، وكثير منا تصدر منه أفعال خارج السياق، أو مستغربة تمامًا عن نمط شخصيته المعتاد، وهو أمر متكرر في عرف الحياة اليومية. ما تحاول الكتابة فعله هو إيجاد تفسير لما حدث، ومنه يمكن فهم العالم بشكل أفضل على نحو ما. تدور الرواية في ليلة واحدة، حول حدث عام صادم لجميع الأفراد، تتبعه صدمات شخصية لكل منهم، ومن الطبيعي أن تظهر ردود أفعال حادة وناشزة تحت تأثير تلك الصدمات.



على ذِكر المنطق.. سمحت البنية الدائرية للراوي بإتاحة مساحة لكل شخصية على حدة، رغم أن ذلك لم يمنحها صوتًا للحديث بقدر ما استعرض علاقتها المباشرة وغير المباشرة بما يجري عبر حكايات فرعية أضافت مزيداً من التشويق جاء على حساب بناء الشخصيات الرئيسة والتعقيد لعلاقاتها المضطربة بالحادثة، باستثناء "حليمة" التي أظهر الفصل الأخير من حكايتها تفسيرًا مقنعًا لأدائها. هل التشويق وحده غاية كافية للرواية؟

* أن تجري أحداث الرواية في ليلة واحدة، فهذا تطلب اختيارات فنية عديدة في البناء، كأن يدور السرد بين الشخصيات، كحركة كاميرا one shot بين الشخصيات، حتى لو قسمت إلى فصول صغيرة. ربما يخبو صوت الشخصيات نوعًا ما لأن الجميع كان يعتقد أنه مسيطر على حياته، في حين أنه في الحقيقة لا سيطرة لأحد منهم مطلقًا على أي شيء، فصدفة واحدة دمرت كل شيء، وربما هذا هو الواقع القديم والمستمرّ في عالم الريف. التشويق أداة فنية من أدوات الكاتب، يكتسب أهمية أكبر في كتابة أدب الجريمة، وفي رأيي أن التشويق اليوم لا يمكن التخلّي عنه لأن القارئ مشتت طوال الوقت ولا بدّ أن يكون مشدودًا إلى الكتاب بأكبر قدر ممكن.

يقترب عالم روايتك من عالمَي "بيت من لحم" و"الحرام". هل ما زال الريف ساحة منغلقة على نفسها؟ وكيف يمكن لقارئ العام 2024 استيعاب ذلك العالم الآن والفضاء العام صار من الكشف بحيث لم يعد لمعنى "الستر" قيمة معنوية أو أخلاقية؟ 

* تدور أحداث الرواية في زمن بداية الألفية، العام 2003 تقريبًا، وقتها كان الريف أكثر انغلاقًا من اليوم. أما الآن، فربما تغير الوضع ماديًا من حيث انتشار الهواتف الذكية ودخول الإنترنت وانفتاح الريف على العالم ككل وليس المدن المركزية فقط، لكن ما زالت لثنائية الفضيحة والستر سلطة قوية على أفكار أهل الريف. يمكن ملاحظة تلك السلطة من خلال تتبع شكاوى الرجال في الإنترنت داخل مجموعاتهم المغلقة ومشاكلهم مع أهاليهم بسبب زوجاتهم، وكثير من حوادث الشرف المنشورة في الصحف يوميًا. ما حدث ليس نزعًا لرقابة المجتمع الريفي على أبنائه بالتمدين، وإنما هو تمدين مزيف. وربما حدث العكس، ترييف للمدن، مع هجرة أبناء القرى المستمر إليها.

- ثمة تغييب لمكان وزمن الأحداث، رغم أن الراوي أحيانًا يشير إلى أماكن بعينها، مثل "مستشفى قليوب العام"، ومحافظة الإسكندرية. وكأنه يتحاشى تسمية مكان بعينه مسرحًا لوقائع الرواية. يبدو أن هناك رقيباً ما يخشاه الكاتب...

* في الرواية تغييب متعمّد للقرية مسرح الأحداث، بدافع فنّي، أنه يمكن إسقاطها على أي قرية في المصري، بَحري أو قِبلي، فحتى لو اختلفت المواقع الجغرافية، فإن الأفكار وتركيباتها في التعامل مع قضايا الشرف ومفهوم الفضيحة لا تختلف كثيرًا، وربما يزداد الأمر عنفاً وقسوة في أماكن أكثر من غيرها. أعتقد أن إحدى مهام الكتابة هي تقويض التابوهات المجتمعية وطرح الأسئلة، لكن في الوقت نفسه، لا أخفي أني خفت، فماذا سيحدث إذا رد المجتمع بعنف على الكاتب، كأن يتعرّض للاعتداء والحبس، وربما الاغتيال؟!
_______________________________

(**) محمد عبد الرازق طبيب أسنان مصري، مواليد 1996، صدرت روايته "بياض على مد البصر" مطلع العام الجاري عن دار العين للنشر بالقاهرة، وهي كتابه الثاني بعد رواية "الوقوف على العتبات" (ط1 2021).
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها