الأحد 2024/02/11

آخر تحديث: 08:58 (بيروت)

منح الصلح في ذكراه... السياسة من باب الثقافة

الأحد 2024/02/11
منح الصلح في ذكراه... السياسة من باب الثقافة
أمن منح الصلح بالميثاق والصيغة اللبنانية قدر إيمانه بالعروبة وفلسطين
increase حجم الخط decrease
عشر سنوات مضت على رحيل منح الصلح(1927 - 2014) وكلما ذكرناه أو تذكرناه أدركنا كم حجم الفراغ أو الخواء المتسع في المكان. وأن قنطرة بحرية عالية في بيروت ما عادت في مكانها. ولكن كم من وزراء ورؤساء وزارات وسياسيين لا يذكرهم أحد ومنح الصلح حاضر بفكره وبنهجه وأخلاقه وثقافته وطرافته. هل أحب السياسة أو سعى إلى السلطة؟ برأيي انه مارس السياسة من باب الثقافة. وهو كان يقول عن عمه الرئيس تقي الدين الصلح بأنه "كان سياسياً مبطناً بأديب". ولا عجب فهو كان يردّد هذا البيت الشعري للمتنبي بينه وبين نفسه: "يَقولونَ لي ما أَنتَ في كُلِّ بَلدَةٍ. وَما تَبتَغي ما أَبتَغي جَلَّ أَن يُسمى".


 يقول معن بشور إنه عُرضت على منح الصلح الوزارة في أواخر الثمانينات شرط أن يقيم في الشرقية لأسباب أمنية فسأل الموفد؛ "كيف تريدني أن أمثّل المسلمين في الحكم وأنا لاجىء في منطقة لا أسمع فيها كلمة الله اكبر". هل سعى لتأليف الكتب؟ والمفارقة أنه كتب كثيرا باسمه واسم غيره ولم يهتم بنشر اسمه ولا بالوصول بل بنشر أفكاره. لذلك ربما ترك القليل من الكتب والمخطوطات ولكن الكثير من الأفكار والسجالات والذاكرة الشفهية والقفشات الذكية اللاذعة. كان صديق الأمكنة التي يلتقي فيها الناس مثل مكاتب الصحف والمجلات وقاعات الندوات والمقاهي. وربما أيضاً هذا ما دفعه إلى الانزياح نحو فعل التأسيس التي تسمح بتفاعل الحياة مع الواقع والأفكار والناس والسبل والزمن. أسس دار الندوة عام 1986 والمنتدى القومي العربي عام 1990 واللقاء الوحدوي عام 1992 والمنتدى القومي الإسلامي عام 1994 وترأس المركز الثقافي الإسلامي القريب من بيته في رأس بيروت. ومع كل ذلك بقي منح الصلح على مشارف كل شيء في الحياة والأدب والسياسة والأحزاب والسلطة. أما الأعماق التي قصدها حقا فهي لبنان والعروبة وبيروت. اسمعه يردّد متحيراً "العروبة في العربية والعربية في الشرقية". ويتابع ضاحكاً: "ايه... ايه". أما الموقف الحقيقي فهو الوحدة فمثلا" لا يجوز أن يصدر بيان عنا في بيروت الغربية لا يستطيع توقيعه نظراء لنا في التفكير والموقف في الشطر الآخر من البلاد". ولكنه رغم ذلك كان يكتفي من لبنان برأس بيروت  وكلمته شهيرة: "هناك ثلاثة بيروت الغربية والشرقية ورأس بيروت"... ومن رأس بيروت اكتفى بالمقاهي والصحف. نافذته إلى البلد والناس وجيرة الناس. قال عن نفسه غير مرة: "أنا مسلم بروتستانت" من فرط ما تعلّم في مدارس البروتستانت في رأس بيروت. ثمة صورة جميلة اذكرها له في رأس بيروت واقفاً قرب لوحة زرقاء كُتب تحتها شارع عادل الصلح (والده) يتأملها مبتسماً برضى. عام 1992 قصدته لشهادة أو كلمة في الذكرى العاشرة لغياب الشاعر خليل حاوي للصفحة الثقافية في جريدة "النهار"، وكانت يومذاك في عهدة الشاعر شوقي ابي شقرا. تجاوب متحمساً وبإريحية ومحبّة وأملى عليّ ما أراد كتابته وقرأ قصيدة "الجسر" لحاوي كاملة من الذاكرة. وعندما سألته: كيف استطعتم أن تجذبوا حاوي من القومية السورية الى القومية العربية؟ ابتسم وقال: "هو كان عنده ميل ونحن ما قصرنا"، وأضاف "خليل إنسان طيب وقاس وحنون".

منح الصلح ذاكرة ناطقة ساطعة بالامكنة والأشخاص والأحداث والتواريخ والأفكار. ويسبك كل ذلك في جمل وعبارات لا تسمح لك بادراك الفارق بين مترادفات الزمان ومصائر القدر. روى لنا غير مرة يقول "يوم ذهبت مع عمي تقي الدين إلى منزل صديقه الرئيس فؤاد شهاب في صربا قرب جونيه لنسلّمه الخطاب المعدّ للإلقاء بمناسبة عيد الاستقلال. بعد نظرة سريعة ألقاها الرئيس على البيان قال: "يا ليتني أستطيع أن أتكلم بالعربي الدارج لقلت "إن الدولة والإدارة صار لازمها خراطة"، وبالفعل كما تبين في ما بعد كان هذا هاجس الرئيس فؤاد شهاب، وقد استقدم الأب لوبريه الفرنسي على هذا الأساس طالباً منه إجراء هذه "الخراطة" فالديمقراطية بشكل الحكم لا تكفي...
ما أذكره أيضاً من تلك الجلسة أنه أضاف متحدثاً إلى العمّ وإليّ، "إن هذا لا يتمّ (أي الخراطة) إلا بأخذ رأي المسلم ومشاركته"، مضيفاً: شرط أن يكون مثل أفضالكم أنتما الاثنين. لم أفهم بالضبط ماذا كان يقصد بشرط أن يكون المسلم مثل حضرتكم، وقلت ذلك للعم، فأجاب أنه يقصد المسلم الذي لا ينظر إلى لبنان من زاوية عددية رقمية صرفة، فإذا كان أكثرية ارتضى لبنان دولة سيدة وإذا كان أقلية نادى بعدم ضرورته". 


في شقته المتواضعة المستأجرة في راس بيروت رأيت في صالون منزله بارافان مزين بلوحات قال إنها رسومات بريشة السلطان عبد الحميد. واذا ما توغل في الحديث عن تركيا والعرب يخلص إلى أن الفرق بين أتاتورك والحكام العرب ان أتاتورك قبل الحضارة الغربية ورفض الاحتلال الغربي. اما العرب فقد قبلوا الغرب كاحتلال ورفضوه كحضارة. كان يحبّ دائما العودة إلى الينابيع الحقيقية في الثقافة إلى الكبار في ثقافتنا وبلادنا. وفي ظنّي أنه كان يأنس إليهم مثلما يأنسون إليه. وحرصه كبير على صون الذاكرة ومد عناصر الهوية بمكوناتها الثقافية والوطنية والقومية. والسعي لأجل بناء رؤية للمستقبل مهما كان الحاضر هشاً ومهماً أسفرت التجارب عن خيبات. ومراهنا باستمرار على الربط الوثيق بين المسألة القومية والديمقراطية. ولكن ماذا اذا عز الظرف وتراكمت الأخطاء والخطايا وتبدّلت الأمزجة والقامات وصارت الطريق موحشة ودونها أهوال؟

 يلجأ إلى السخرية وطرفه متناثرة على الأفواه كالفاكهة اللذيذة. ربما ليست السخرية خياره الأول بقدر ما كانت حجته ضد كل هذا العبث وذاك الخواء. أو لعلها طريقته في اختيار برج الرصد والتحليل ونقطة الوقوف على مسافة واحدة من الخصم والحكم والحليف. ولكنه بالتأكيد فضل السخرية على علاقات مزيفة عابرة. كانت عباراته أو مأثوراته الشفهية محكمة في الإيجاز والمنطق أو "مشرقطة" في سخريتها. كان يقول مثلاً: "ليس في السياسة أبالسة ولا ملائكة"، "أن لبنان هو ثمرة وحدة جبل لبنان وبيروت"، "إن ما يهدّد الهوية اللبنانية هو التهور"، "السلطة فنّ عربي"، "لولا المسيحيين ما قام لبنان ولولا المسلمين ما دام"، "لا يجوز أن تنتصر الأيديولوجية على الحياة"، "كراهية العرب تجارة رابحة في أميركا وإسرائيل"، "الوضع العربي غير قادر على الإنجاز"، "العرب هم محصلة لقاء مصر بالقبائل العربية"، "العصامي هو الشخص الذي لم يتمكن من مدح نفسه إلا بذمّ أبيه"، "ابتدأت الحرب اللبنانية ضد الامتيازات وانتهت ضد المزايا"، "ثورات الربيع العربي هي انقلاب حتى بالكلمات"، "لبنان وطن صعب ولكنه غير مستحيل"، "إن العمل الوطني هو مجموعة من الشيعة يتقدمهم رف من المسيحيين يسيرون في شارع سني بشعارات فلسطينية"، وقال مرة للصحافي جهاد الزين وهو يستعد للانتقال من جريدة "السفير" إلى جريدة النهار "ليس المهم ما يحدث داخل الجريدة المهم ما يحدث على صفحاتها". وذات مرة رأى الصحافي حكمت ابو زيد يتحاور في جلسة طويلة مع الرئيس أمين الحافظ، وعندما انتهى بادره منح الصلح: "شو قعدت مع الدكتور أكتر مما قعد برئاسة الحكومة". 

آمن منح الصلح بالميثاق والصيغة اللبنانية قدر إيمانه بالعروبة وفلسطين وظلّت عينه على النهضة العربية وعلى الوحدة والحرية والاستقلال في كل أرض عربية.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها