الأربعاء 2023/09/20

آخر تحديث: 11:53 (بيروت)

"رأس الشنفرى" يطلّ عبر رواية عصام سحمراني

الأربعاء 2023/09/20
"رأس الشنفرى" يطلّ عبر رواية عصام سحمراني
عصام سحمراني
increase حجم الخط decrease
بعد روايته الاجتماعية "تحت الصنوبرة" (بيروت، 2020)، ومجموعته القصصية "أنثى.. ضوء وزاد" (القاهرة، 2012)، يخوض الكاتب الصحافي اللبناني عصام سحمراني في حقل الرواية الاجتماعية المُدانية للتخصص عبر "رأس الشنفرى في طريقي – حدث في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019" (بيروت: دار المصور العربي) التي أبصرت النور قبل أيام. 
 
غرابة العنوان تتبدد شيئًا فشيئًا مع التوغل في النص الممتد على 314 صفحة، لتتوضح علاقة ثابت بن أواس الأزدي، الشاعر الجاهلي الذي تبرأت منه القبائل، بحياة نسبة الشباب في لبنان اليوم. لا يمكننا أن ندعي أن نسبتهم كبيرة لكن مصالح نظام المحاصصة الرعوي الطائفي لم تتقاطع معهم في يوم من الأيام، فهم خارجه حيث يكون وقع الكوارث عليهم أشد وطأة.  
أما النص نفسه، فالبتوازي مع السرد، في كل فصل من فصوله الـ 32 وخاتمته، مسوّر باقتباس مدخلي وملحقات. في الاقتباسات، يمرّ الكاتب على ما يُدخلنا إلى الفصل مما جاء على ألسنة جوزيه ساراماغو، ويحيى حقي، وطلال حرب، وإبراهيم الأحدب، ومظفر النواب، وحنا مينه، وإدريس جمّاع، ووليام وودز، وأبو أحمد الكاتب، وإيفان فرانكو، وميخائيل ليرمنتوف، ووليام ساوريان، وصادق جلال العظم، وإبراهيم الكوني، ورسول حمزتوف، وأحمد فؤاد نجم... أما المحلقات فتوثيقية مخصصة لأخبار تداولتها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وتعليقات عليها، وإعلانات رافقت زمن السرد.   

الشخصية الرئيسة في الرواية بطل حقيقي بمعايير اليوم، شاب على عتبة الأربعين يواجه بمفرده كمّا هائلا من المصاعب التي تبدو "عادية"؛ تتمثل عادة بتأمين ضروريات الحياة وغير "عادية" حينًا آخر تستهدفه مباشرة، لكن نجم المتخصص بعلم الاجتماع رهين فكرة طاغية، أقنع نفسه بها من جهة، وساعدته الظروف والمفترقات الرئيسة في حياته على تعزيزها وتكوين بنيتها، وهي أنه أكثر الأشخاص نحسًا في العالم، وأنه يمكنه أن ينقل نحسه إلى جميع من هم حوله والتأثير على مصائرهم. 

وبينما يتنقل نجم من نكبة إلى أخرى في حياته تأتي نتائج اللوتو غريبة إذ إن ما "تكّسه" على البطاقة يزيد رقمًا واحدًا عن كل كرة رابحة. يقرر أن ينتقم وهو قرار غريب في حياته التي تهادن فيها مع نحسه إلى درجة اللافعل، يأتي بقارورة بنزين ليحرق أحد مباني وزارة المالية، يريق السائل على الأرض لكن قبل أن يشعله يتراكض شبان وشابات في الشارع. بدأت ثورة تشرين في تلك اللحظة. لكن السائل يشتعل ولا يعرف من أشعله. يشكل هذا اللغز طريقه إلى الشخصية الثانية، ياسر المتخصص كذلك في علم الاجتماع، الذي يحاول إثبات فرضيته حول الفساد وتوريثه في لبنان. 

لا يبتعد الكاتب عن دائرة المكان التي تتمثل ببيروت، وفي قلب بيروت مسرح أحداث 17 تشرين. لقاءات نجم وياسر وافتراقاتهما تشعبان مسارات السرد وفق كرونولوجيا الأحداث بين تشرين الأول/ أكتوبر 2019 والزمن الحاضر، نلحظ كيفية انعكاس الأحداث عليهما، كل حسب نصيبة من المأساة الكبرى التي يعيشها اللبنانيون (لبنانيو الانتفاضة ولبنانيو الطوائف). أما نجم وياسر فيبقيان على المسافة عينها من المنتفضين وجمهور الطوائف في آن معًا، لكن لكل واحد منهما تسويغه المتسلح بمقدمات منطقية لهذا القرار. يمسح الكاتب مسحًا توثيقيًا كل الشعارات التي رافقت المنتفضين على مدى شهور الانتفاضة أو الثورة، وهو إن برّز شعار "يسقط كل شيء" على غلاف الكتاب فلأن "الكل شيء" بما فيه المكان والزمان (السنوات الثلاث الأخيرة) هو السبب الكامن وراء المأساة، أما السبب المباشر بالنسبة إلى نجم فيبقى نحسه إلى أن يُحرفه النقاش مع ياسر عن بعض ثوابت تلك القناعة. يقول: لعل شعارات 17 تشرين إذا وجدت لها مكانًا في تراث النضالات الإنسانية ستكون خالية من عبارات عبثية من قبيل "الغضب الساطع آت"، فإذا لم يكن هذا الغضب اليوم بينما تجمع الساحات مئات آلاف المحتجين، فمتى يأتي؟ 

الرواية شيقة محفزة للقارئ العادي، الذي يعرف بشكل عام أحداث السنوات الثلاث الأخيرة في لبنان على مستوى انتفاضة 17 تشرين، ووباء كوفيد 19، والانهيار المالي وانسداد الأفق السياسي. لا يشعر القارئ بالراحة وهو يتابع قراءة متأنية محايدة بعيدة عن الطوائف وأربابها وزبانيتها ومجرمي الحرب الأهلية الذين يمهدون لحرب أخرى؛ وليس الهدف، ربما أن يشعر بالراحة بل يشعر أن عليه أن يتضامن مع نجم لكنه يعرف في الوقت نفسه أنه مهزوم مثل نجم وإن بنسبة ما. يستفزه السرد مرارًا وتكرارًا مع كل حدث يعيشه نجم، ثم يسقطه على نفسه، فهو أيضًا عاشه أو سمع به على الأقل. 

أما القارئ الملمّ بعلم الاجتماع فهو أمام رواية – معضلة، نصّ سردي متخصص مسرحه الواقع اللبناني اليوم وفي السنوات المقبلة، وخلفيات أحداثه سوسيولوجية يدركها، ويمكنه أن يتتبعها وفق إسقاطات النظريات على الوسط المحلي وما خرج به مطوروها محليًا من خليل أحمد خليل إلى عبدالله إبراهيم وفردريك معتوق وعلي الوردي... يرسم النص هوية لبنان الحالية سوسيولوجيًا وتلعب الاقتباسات التي تسبق الفصول ثم الملحقات هنا دورًا مهمًا في تأطير كل صورة من صور هذه الهوية التي أجاد الكاتب رسمها بالكلمات، وترجع القارئ إلى مشاهد يعرفها من الذاكرة الحديثة. 

هنا تكمن فرادة هذه الرواية. مسرحها بيروت في الوقت الراهن، وهي تفتح أمام القارئ أفقًا عبر التفكير والتتبع واستشراف ما هو آت من اللاأمل. لا يمهل الكاتب القارئ وهو يصب عصارة النظريات في قوالب سوسيولوجية تجذّر المأساة. لا يضرب سحمراني ضربة على الحافر وأخرى على المسمار، فكل ضرباته على المسمار، واحدة تلو الأخرى حتى يخرج المسمار كله إلى الجانب الأكثر ظلامًا في مأساة قلة من الشباب اللبناني لا تتقاطع حياتهم مع "السيستيم".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها