الثلاثاء 2023/08/01

آخر تحديث: 09:02 (بيروت)

محمد طرزي يطلق صرخة في وجه "ميكروفون" الزعيم

الثلاثاء 2023/08/01
محمد طرزي يطلق صرخة في وجه "ميكروفون" الزعيم
سيدفع لوركا حياته في حرب عبثية قربانًا لإطالة عمر الزعيم
increase حجم الخط decrease
 

في روايته الأخيرة "ميكروفون كاتم صوت"، الصادرة "عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" (2023)، يخطو الكاتب اللبناني محمد طرزي خطوات واثقة في ميدان الرواية الواقعية الاجتماعية، بعد سلسلة من الروايات الخيالية التاريخية، التي شكلت القارة الأفريقية موضوعًا لمعظمها. ذلك ليس غريبًا على طرزي، الذي قضى مدة زمنية كافية في تلك القارة متأملا باحثًا معاشرًا أبناءها ما مكّنه من تناول موضوعات من تاريخها تمسّ بالوجود العربي على ساحلها الشرقي، لاسيما في ثلاثيته "جزر القرنفل" و"مالندي" و"عروس القمر" (الصادرة عن الدار عينها).

وها هو اليوم يصل إلى المهمة الأصعب، عبر رواية اجتماعية تتحدث عن المدينة وناسها الآن وهنا. والمدينة هي مدينة الكاتب، صور، وناسها في الرواية يمكن أن يكونوا ناسها في الواقع أو على أقل تقدير يمكن أن يشبهونهم، بغض النظر عمّا يدوّنه الكاتب من أن "جميع شخوص هذه الرواية هي من وحي الخيال. إن أي تشابه بينها... هو محض مصادفة، مجرد من أي قصد" (ص 270).

تكمن الصعوبة في ما يكتب عن المجتمع الحيّ في الزمن الراهن، حين تكون دائرة المكان بلا ذاكرة! كيف؟ انقطع الزمن مع انسحاب العدو الإسرائيلي من المدينة، فما كتب في تاريخها الحديث صبّ في خانتي الأمن بكليشيهاته والسياسة بزواريبها المحلية. أما التاريخ الاجتماعي بشكله الروائي فلا وجود للراهن فيه، وشذرات منه تناثرت في مواد صحافية بقلمي ثناء عطوي وحسين سعد، أو أطل عليه فواز طرابلسي لمامًا في تأريخه للبنان، أو عبر بحثين يتيمين في مواد مؤتمر تاريخي علمي نظمه "منتدى صور الثقافي" أواخر التسعينيات... وصور في ذلك ليست نافرة عن إجماع المدن اللبنانية، فلكل واحدة منها زعيمها ومختاره وزعرانهما... ويندر أن نجد من يتناول مرحلة راهنة فيها بعمل روائي واقعي جاد. فكيف تسنى لمحمد أن يغطي مرحلة لا تزال أبوابها مشرعة (ثورة تشرين 2019، الانهيار المالي والاقتصادي، جائحة كوفيد 19، انفجار مرفأ بيروت 2020، ...)؟

 

المدينة - المقبرة

"مدينتي مقبرة كبيرة/ يحكمها مذياع للموت،/ ما أكثر مكبّراتها/ وما أضعف فيها الصوت". قبل بدء النص تمهد له هذه القصيدة النثرية الصغيرة. وهو يبدأ في مقبرة المدينة مع سلطان، بطل القصة، حين ألقى "نظرة هادئة على شواهد القبور المغسولة بالمطر" (ص 7)، وينتهي بصمت عميق "لا تخترقه سوى ضربات الحفار، ممزوجة بنعيق مبحوح، مصدره سرب من الطيور، تصفر بأجنحتها، سعيدة بهروبها من الأرض الموات" (ص 269).

بين دفتي البداية والنهاية، تتحول مقبرة المدينة إلى المدينة – المقبرة. أي أن الكاتب أبدع في تجهيز مسرح روايته، بدائرتين مكانيتين الصغرى هي المقبرة والكبرى هي المدينة، واعتنى بأدق التفاصيل المتعلقة بهذا التجهيز الفني الذي حوّل المقبرة إلى كائن حيّ يلتهم جثث الميتين فيكون مصدر رزق للحفار ومنزلا لأسرة سلطان، ويلعب دورًا حاسمًا في المنعطفات السردية، فيسمح للأحياء بزيارة قبور الراحلين ولبعضهم بالنحيب، وللمتسولات أن يسترزقن، أو لحسن نديم سلطان أن يعاقر خمرته "مشروبه المفضل"، أو أن يعزف بأوكرديون متخيل... أو أن تغدوا حلبة لزعران المختار (الذي يجسد قبضة الزعيم) ليطلقوا النار على والد سلطان أو ليطعنوا حسن. إلا أن هذا الكائن يتمدّد أفقيًا ليبتلع المدينة فعليًا عبر قضم مساحات جديدة من الأرض أو بسلطة الميكروفون المحمول على سيارة النعي التي تجول في أحياء المدينة لتفرض ثقافة الموت عبر تلوث صوتي يصاحبه تهشيم اللغة نحوًا وصرفًا. تستحق هذه المدينة – المقبرة أن تكون الشخصية الرئيسة في الرواية، حيث الماضي يزحف نحو الحاضر ويبتلعه، بغض النظر عن الحبكة التي صاغها الكاتب بعناية ولملم أطراف خيوطها بدقة. أي أن هذه المقبرة الكبيرة يمكنها أن تحمل حبكات مختلفة لأناس يمكن تتبع مصائرهم، لها كيانها الخاص ومصيرها الخاص كذلك، وهي تحقق ذاتها عبر التهامها الأموات والأحياء معًا.   

هنا الوصف شديد الواقعية، حيث ترافق القارئ روائح المجاري والنفايات المتناثرة في كل مكان، فيجعل الكاتب الوصف سينمائيًا حيًا. وما يمكن أن يؤخذ على طرزي أنه أضاف إلى هذه المدينة – المقبرة كلية للآداب، ومجلة أدبية، وبسطة كتب صاحبها مثقف نسبيًا... قد تكون الحبكة اقتضت ذلك، لكن على الرغم من هذه الإضافة المجافية للواقع لا يمكن لبقع ضوء حضارية ضئيلة أن تؤثر على الواقع القاتم، المرّ، كثيرًا.

وتضاف الأشياء إلى المكان، حيث نقف على نضوج روائي في استخدامها للملمة خطوط السرد: في ورقة العشرين دولارًا، من جيب المغترب الذي أضاع قبر أبيه إلى جيب سلطان إلى جيب الطفلة لينا الهاربة مع أبيها قاسم وأفراد العائلة في أحد قوارب الهجرة غير الشرعية، ليكون تأثيرها الفعلي عن منعطف الموت والحياة. كذلك في "البكاية" الفينيقية، من يد عم سلطان إلى يد وداد إلى مكتبتها إلى خزانة قبرها. ونلحظ طغيانًا لصورة الزعيم الحاضرة أبدًا في الأذهان بين الرهبة والإذعان والتذلّل والتمرّد فتضيف إلى التلوث الصوتي تلوثًا بصريًا لا يقل وطأة، إذ تحظى رمزيتها باستخدام مميز على غرار "سيد الذباب" عند وليام غولدينغ في استخدامه رمزية بعل زبوب. تلعب الأشياء في الرواية أدوار شخصيات كما سيارة النعي، التي هي كائن بذاته مع سلطان وأبيه، أثناء الانفلات من حظر التجول، أثناء السخرية من ابتسامة الزعيم...

هكذا، بعدما تمكن الكاتب من تجهيز مسرح الأحداث بهذه الدقة تسنى له أن يغطي مرحلة لا تزال أبوابها مفتوحة على مجهول لن يكون أفضل مما نحن فيه.


صرخة

الهروب من المقبرة للأحياء فعل انتصار. انتصار باهت يدفع الأحياء ضريبة باهظة الثمن للوصول إليه، لكنه يبقى انتصارا. فإذا ما قدر لسلطان الفقير أن يدخل في رابطة حبّ مع وداد حفيدة الإقطاعي، ستخنق الفتاة حبّها وتختار آخر ذا ثروة وجاه ثم ينهي حياتها انفجار المرفأ... وإذا ما قدر لقاسم أن يغامر بعائلته في رحلة قارب من قوارب الموت وأن يتوه في مسارات أوروبا سعيًا إلى ألمانيا، ستدفع ابنته حياتها جواز عبور إلى أرض الأحلام. وإذا ما اختار والد لوركا أن يسير في ركب المتسلطين على البلاد والعباد وأن يتوشح بزي الدين والتقوى الزائفة فسيدفع لوركا حياته في حرب عبثية قربانًا لإطالة عمر الزعيم وتحصينًا لنفوذه...

قد ترقى هذه الرواية إلى نصوص الأدباء الكبار في معالجة العقد وتتبع المصائر، وقد استخدم الكاتب لغة سلسة واضحة بسيطة بلا تكلف (إلا في استخدام بعض المفردات). ولا يضرها، وهي رواية اجتماعية واقعية، أن الراوي يحوّل السرد إلى خطاب، وهو توجيه مباشر للرواية انطلاقًا من خلفية سياسية متماسكة في أذهان المتلقين. كذلك يظهر أن استخدام اللغة العامية في الحوارات مقبولاً، وقد استخدم بطريقة قريبة من الفصحى. ففي تناولنا لهذا النوع من الرواية لا نتوقف عند النظريات النقدية وأدواتها الكلاسيكية ومقاييسها ومعاييرها وإسقاطاتها على نماذج من الأدب العربي والعالمي. فالانطباع الرئيس لدى القارئ بعد الانتهاء من قراءة "ميكروفون كاتم صوت"، أن طرزي تمكن من إطلاق صرخة في وجه هذا الميكروفون من ميدان الرواية الواقعية الاجتماعية، وأجاد في ذلك.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها