الثلاثاء 2023/06/06

آخر تحديث: 13:56 (بيروت)

منتصر القفاش لـ"المدن": تشغلني قدرة العادي على إدهاشنا

الثلاثاء 2023/06/06
منتصر القفاش لـ"المدن": تشغلني قدرة العادي على إدهاشنا
يثير خيالي مكان صغير محدود لكنه غني ومتسع بالعلاقات بين ساكنيه وحكاياتهم وأحلامهم
increase حجم الخط decrease
بلُغته شديدة التكثيف، يكتب منتصر القفاش في القصة الأخيرة من مجموعته الجديدة "بصورة مفاجئة"، عن مناجاة يسمعها شخص واحد فقط. القصة عنوانها "صوت ما" وفيها يناجي أحدهم حبيبته ويطلب منها أن تأتي سريعاً لأنه تعب من الانتظار ويكاد يجنّ: "خمس دقائق هي عمر المناجاة. ولا يذكر الصوت اسم حبيبته ولا سبب ابتعادها عنه، يلح فقط على أن ترجع، وتطفئ نار الشوق الذي يكويه وأن تعيد الفرحة إلى حياته وتبدّد الظلمة التي صار يتخبط فيها". مع القراءة الأولى، جذبتني القصة واعتقدت أنها تحمل خطاً وحدها، بعيداً من قصص المجموعة حتى لو تقاطعت معها في بعض المواضع.

لكن منتصر فاجأني بتأكيده على أنها كانت أول قصة كتبها في الكتاب، بل إنه كتبها أصلاً قبل أن يبدأ في كتابه السابق "في مستوى النظر"، الذي اتخذ مساراً مختلفاً عن عالم هذه القصة بحكايات عن الدور الأرضي وسكانه. قال إن تجربة "صوت ما" قادته بشكل أو آخر إلى قصص المجموعة الجديدة "بصورة مفاجئة"، التي يدور معظمها في محيط عائلي بأسراره والعلاقات بين أفراده وما يمرون به من مفاجآت، سواء على مستوى الأحداث أو ردود أفعال غير متوقعة. وكما اعتاد في كتبه السابقة، فعنوان الكتاب ليس من عناوين القصص، بل هو عنوان يشملها جميعاً، وقد ظهر بعد انتهائه من الكتابة منتصف العام الماضي تقريباً: "دائماً أفضّل فكرة الكتاب القصصي، كتاب يتشكّل عالمه من علاقات القصص ببعضها البعض ومن دلالة ترتيبها في الكتاب، ويصير العنوان أقرب إلى خريطة تتضح معالمها من قصة إلى أخرى".

عدت للقصة مجدداً على ضوء المعلومات الجديدة فوجدت أنها مدخل مهم لفهم المجموعة، بل هي مفتاحها الأساس، مفتاح الخريطة. فتلك المناجاة تصلح لتأويلات متعددة.. تصلح لحبيبة غائبة، وتصلح أيضاً لأعمارنا المنقضية ولسنوات التكوين التي تحمل في طياتها الذكريات الطفولية المستمرة على طول الكتاب، بعَين الطفل التي ترى العالم بطريقة مختلفة. لكل تلك الأيام التي تراوغنا وننتظر عودتها كأمنية مستحيلة، ففي طيفها الذي نلمحه "بصورة مفاجئة" في رسائل محفوظة بكتاب قديم أو صندوق مغلق على أسرار عائلية، فرصة جديدة لفهم ذواتنا، وفي تشابهها المحتمل فرصة أخرى لأن تصبح قصص المجموعة قصصنا أيضاً بصورة ما.
هنا يتحدث منتصر القفاش لـ"المدن" عن المجموعة الجديدة بالتفصيل..

- في المجموعة السابقة "في مستوى النظر"، نقرأ حكايات الدور الأرضي، حكايات عن العادي واليومي والذي يفاجئنا في الوقت نفسه بمعانٍ مغايرة لما كان دائماً تحت عيوننا وفي مستوى نظرنا... في المجموعة الأخيرة، حكايات أخرى عن قدرة المألوف على مفاجأتنا أيضاً لكن بتيمات مختلفة. بالتأكيد تُكتب القصص خلال فترات زمنية متباعدة وممتدة، فكيف يحدث هذا التقارب في الموضوعات؟ كيف ترتبها بحيث تقبض كل منها على تيمة واحدة مغايرة؟

تشغلني دائماً فكرة أن ما نعتبره عادياً أو مألوفاً قادر على إدهاشنا ومفاجأتنا بما لم يخطر في بالنا من قبل. فما نألف رؤيته يتضمن مستويات تحجبها أو تبعدها عنا تلك الألفة. وقدرتنا على رؤية الأشخاص والأشياء من حولنا، تضعفها تلك الحدود التي اعتدناها. والكتابة تساعد على التحرر من النظرة المعتادة لكل ما نعيشه. تساعد على اللعب مع المألوف لكشف إمكاناته وما نغفل عنه في حياتنا اليومية، خصوصاً لو كان متاحاً أمامنا كل يوم. صندوق موجود في شقة منذ سنوات بعيدة واعتاد الجميع رؤيته، تأتي لحظة ليثير أحداثاً غير متوقعة ويصير الشغل الشاغل لساكني الشقة وربما الجيران أيضاً. وينتبهون لوجوده وضرورته، مثلما حدث في قصة "فتح الصندوق".

وربما ساعدني الاستمرار في كتابة اليوميات سنوات طويلة، على الانتباه إلى أن ما يبدو عادياً تكمن فيه غرابة ما، ولا أقصد شيئاً عجائبياً أو مفارقاً لقوانين الواقع، وإنما الذي نعيشه يومياً ولا نستطيع بسهولة تصنيفه ووضعه في خانة من الخانات المتعارف عليها.

وكما ذكرت، أكتب القصص خلال فترات زمنية متباعدة، لكن كل قصة تفتح الباب لقصة أو قصص أخرى. يمكن تشبيه الأمر بشخص يتجول في أرجاء منطقة ويشده طريق جانبي قد يسلّمه إلى طريق آخر. وبعد الانتهاء من القصص، أستغرق وقتاً في ترتيبها لتحقيق فكرة الكتاب القصصي، حتى لو صارت القصة الأولى، من حيث تاريخ كتابتها، في نهاية الكتاب، كما حدث مع قصة "صوت ما". 

مسألة الموضوعات تجرنا لقضية مهمة، فهناك جدل لا ينتهى حول القضايا الكبرى مقابل الحكاية الذاتية أو الشخصية. أعمالك تقول إنك تنحاز إلى الأخيرة... إلى أي حد تصح هذه الرؤية؟ وكيف تختار موضوعاتك بشكل عام؟

لا أؤمن بهذا الفصل بين القضايا لكبرى والحكاية الذاتية، وأراه أبعد ما يكون عن عملية الإبداع نفسها. هذا الفصل وليد رؤية تجزّئ الحياة وتختزلها في موضوعات كبيرة أو صغيرة. الأهم والأقل أهمية. ولا ترى الحياة في تفاعل جوانبها مع بعضها البعض. فحَدث يبدو صغيراً وعابراً، قادر على كشف آثار حرب أو ثورة من دون أن تشير القصة إلى أي منهما. الرهان دائماً هو كيف تكتب هذا الحدث.

أما عن اختيار موضوعاتي فربما الأفضل الحديث عن "كيف تبدأ الكتابة" بالنسبة اليّ، فالبداية قد تكون مثلاً مشهداً، أو جملة من حوار، أو شيء موضوع في مكان يلفت انتباهي ويدفعني إلى الاستمرار معه، ويلح عليّ حتى لو توقفت عن كتابته فترة. وأرى أن إلحاح بدايةٍ ما، عليّ، وانشغالي بها مهما كانت الظروف، علامة على ضرورة كتابتها، وعلامة على أنها تختزن تجربة ستتكشف أثناء كتابتها والانتباه لإيقاعها الخاص بها.

- تحقق دائماً معادلة صعبة، إذ توصل المعنى بحمولاته العاطفية، بأقل عدد ممكن من الكلمات، من دون الانزلاق للزخارف والزوائد اللغوية. كيف طورت علاقتك مع اللغة كيف تتحكم فيها وتطوّعها؟

أتفق معك على أنها معادلة صعبة، وتتحقق تدريجياً على مدار رحلة الكتابة. ومن تعريفات القصة القصيرة المفضلة عندي، قول يحيى حقي إنها "فن المقدمات المحذوفة"، لذلك بدايات القصص مهمة جداً، وغالباً ما أبدأ من وسط الحدث بحيث يدخل القارئ في التجربة مباشرة كأنه ليس ضيفاً بل من أهل البيت، ويمكنه أن يتفاعل معهم من دون مقدمات ولا كلام زائد عن اللزوم. ومرتبط بهذا عدم استرسالي في حوارات القصص، وكثيراً ما تكون مؤلّفة من جملة واحدة، لكنها تتضمّن كلام الشخصية الذي لم يُذكر، فالقصة القصيرة جمالها في قدرتها على التكثيف والانفتاح على عالم واسع غني بالدلالات. وفي تلك المفارقة يكمن التحدي الذي يجب على كل قاصٍّ أن يخوضه مع كل قصة. ومن الأشياء التي تحقق ما سمّيته المعادلة الصعبة، مراجعة المسودات، وهو ما أستمتع به كثيراً. فبعد الكتابة الأولى للقصة، تأتي لحظة مراجعتها بعين ناقدة، فأقوم بالحذف أو بإعادة الصياغة أو بإضافة كلمات أو فقرة. مراجعة المسودات أشبه بورشة كتابة خاصة أجرّب فيها وأتعلّم. 

- في السياق نفسه، وكما قلت، الحكي في كل الأعمال يبدو دائماً بسيطاً وعادياً، لكنه مليء بالمعاني ومحمل بالدلالات، وهو ما يعلّق عليه القراء دائماً، لكنى صادفت أيضاً بعض التعليقات التي تشير إلى فشل أصحابها في الإمساك بالمعنى. هل يزعجك هذا؟

من الطبيعي أن تتباين مستويات تلقي أي نص، وأظن المسألة مرتبطة بأفق توقعات القراء، فإذا كان قارئ ينتظر أن يلمّ بالمعنى أو المغزى فور انتهائه من القراءة، فمن الطبيعي أن يتحيّر إذا قرأ نصاً يحتاج إلى تفاعل القارئ معه والانتباه إلى تفاصيل تشكل دلالات العمل. لكن هناك نوعاً آخر من القراء، لا يبحث عما يتوقعه في النص فقط، بل هو مهيّأ لتلقي ما يخالف توقعاته، وتصير القراءة بالنسبة له رحلة إلى مكان جديد يريد التعرف عليه.  

- بمناسبة الحديث عن القارئ.. متى تفكر فيه؟ أثناء الكتابة أم بعدها؟ أم أنه لا يشغلك على الإطلاق؟ وبشكل عام، هل أنت راض عن استقبال القراء لأعمالك والتعامل النقدي معها؟

كما قلت من قبل، مرحلة مراجعة المسودات مهمة جداً لي، وغالباً ما ابتعد عن المسودة الأولى فترة ثم أرجع إليها لقراءتها بعين قارئ ناقد، ثم أستطلع رأي عدد من الأصدقاء الذين تهمني آراؤهم جداً، وأحياناً يدفعني رأي إلى إعادة النظر في جزء من العمل. وبشكل عام، أنا راضٍ عن استقبال القراء لأعمالي وللتعامل النقدي معها، وأعتز كثيراً بدراسات ومقالات نقدية أضافت لي الكثير، وأضاءت لي جوانب من كتاباتي لم أكن منتبهاً إليها.  

- غالبية قصصك تأتي من منظور طفل أو مراهق، تأتي بالضغط على الذاكرة لاستعادة ما مضى. في حين تتغير المسألة مع الروايات التي يكون البطل فيها شاباً أو في بدايات الشباب. هل تقصد هذا؟

ينطبق كلامك إلى حد كبير على المجموعتين: "في مستوى النظر" و"بصورة مفاجئة"، فالقصص فيهما مرتبطة بعالم الطفولة والمراهقة الذي يسهل فيه التداخل بين الواقع والخيال، وإمكانية تجاوز فكرة الحدود بين الأشياء أو الأماكن، وتكثر فيه لحظات الدهشة واكتشاف جوانب عديدة في الحياة للمرة الأولى. أما في الروايات، فاتفق مع ملاحظتك، أبطالها في مرحلة الشباب ويجمعهم أنهم يواجهون تجارب جعلتهم في مفترق الطرق، ومن الصعب أن يستقروا على طريق محدد. هل كان اختيار هؤلاء الأبطال مقصوداً؟ الأرجح أني أنشدّ للكتابة عن تلك الشخصيات غير المستقرة، والمعرّضة إلى أن تتغير حياتها في أية لحظة. شخصيات مثل هذه، تشجع على الاستمرار في معايشتها زمناً طويلاً بينما أكتب الرواية، وتأمل كيف ستتصرف وهي في حالة "مفترق الطرق".

- مكتبة الوالد والرسائل المدسوسة في الكتب، تظهر مجدداً في المجموعة الأخيرة بعد ظهورها في "السرائر". والحكي في المطلق، قريب إلى حد كبير من عالمك الحقيقي. ما حدود الخيال في أعمالك؟

ملاحظتك مهمة جداً، وتسعدني لأنها تربط بين "السرائر" كتابي الثاني، وبين "بصورة مفاجئة"، اللذين تفصلهما سنوات طويلة. مازلت حتى الآن، رغم رحيل أبي قبل 26 عاماً، أعثر على رسائل أو مسودات كتَبها، وقصاصات وأوراق كَتَب فيها خواطر أو أبيات شعر أحبها، وحفظ كل هذا في الكُتب كعادته. وتبدو لي لحظة عثوري عليها، كأنها رسائل يرسلها إليّ بعد رحيله. وإذا جاز الحديث عن مكان ملهم للكتابة، فبالنسبة لي مكتبة أبي من تلك الأماكن، بكتبها التي جلّدها بنفسه وجمعها على مدار أكثر من نصف قرن. وقد تكون بداية قصة مرتبطة بهذه المكتبة أو بحياته، لكنها تتخذ بعد ذلك مساراً أبعد ما يكون عن أي أحداث حقيقية، ويمكن القول إن القصة تحكي عما كان يمكن أن يحدث في حياة أبي أو ربما تكشف مسارات مضمرة في تلك المكتبة.

- البيت، الشقة، الشطرنج، الجيران، مفردات تتكرر كثيراً في أعمالك. ما الذي تمثله لك؟

تربطني بتلك المفردات ذكريات كثيرة، وأكثرها تأثيراً تلك التي أتذكرها فجأة من دون قصد، وتستعيد لحظة من ماض بعيد كما لو كانت حدثت بالأمس، أو كأنها لم تنته بعد وتريد مواصلة الحضور. طوال سنوات الإعدادية والثانوية، ظللت مع عدد من الأصدقاء مشغولين بلعب الشطرنج، والقراءة عنه ومعرفة خططه من سلسلة كتب عبد الرحمن محفوظ الشهيرة، ومنها تعلمنا كيفية كتابة دور شطرنج، وحرصنا على كتابة أدوارنا "التاريخية" كما أطلقنا عليها حالمين بإصدارها في كتب. القصص المرتبطة بالشطرنج تحاول أن تكتب تلك المفارقة: لعبة لها قواعد واضحة تشتبك مع حدث غير متوقع، وكأن الحياة تشاركنا اللعب بمفاجآتها، كما حدث في قصة "دور شطرنج". بالنسبة للشقة أو البيت وعلاقته بالجيران فهو مصدر آخر للإلهام، إذا جاز اللفظ، فدائماً يثير خيالي مكان صغير محدود لكنه غني ومتسع بالعلاقات بين ساكنيه وحكاياتهم وأحلامهم.   

- هل تنشغل بموقعك بين كتّاب جيلك أو بين كتّاب مصر عموماً؟ وهل حققت ما تطمح إليه على مستوى الكتابة؟

كل عمل أنتهي منه هو مجرد خطوة في طريق يتكشف تدريجياً، وإذا استخدمتُ كلمتك "الطموح" فستكون في سياق طموحي إلى الانتهاء من العمل الذي أكتبه الآن، وأن أكون قادراً على التعامل مع الأسئلة والتحديات التي يظهرها هذا العمل. وأرى أن انشغال أي كاتب بموقعه بين الكتّاب تضييع للوقت. وقت هو في أشد الحاجة إليه ليثري ويعمق معرفته وثقافته، وليسهر على كتابته التي تحتاج إلى دأب وصبر. 

- ما الجديد لديك؟

مشغول الآن بكتابة رواية أكاد أنتهي من مسودتها الأولى، بالإضافة إلى كتاب عن يحيى حقي بدأت كتابته منذ سنوات، وأود أن أكمله في وقت قريب.
-------

منتصر القفاش:
روائي وقاصّ مصري، صدرت له أربع مجموعات قصصية وثلاث روايات، حصل على جائزة الدولة التشجيعية عن مجموعته "شخص غير مقصود"2001، وحصل على جائزة ساويرس لكبار الكتّاب مرتين، عن رواية "مسألة وقت" 2009، وعن مجموعة "في مستوى النظر" 2014. وتُرجمت روايته "أن ترى الآن" إلى اللغة الإيطالية.
"بصورة مفاجئة" أحدث أعماله القصصية وصدرتْ مؤخراً عن "الكتب خان".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها