الأحد 2023/06/04

آخر تحديث: 08:39 (بيروت)

"البلوط العتيق" لكين لوتش.. النوايا الحسنة لا تكفي

الأحد 2023/06/04
increase حجم الخط decrease

اندماج المهاجرين - الصعب دائماً - في المجتمعات المضيفة يتضاعف مرّات إذا كانت هذه الأخيرة تعاني بدورها تدهوراً وفقراً وأزمات اقتصادية. في العام الماضي، قدّم الروماني كريستيان مونجيو في فيلمه "رنين مغناطيسي نووي" R.M.N. سرداً قوياً لكافة الأشباح التي تهدّد التعايش وحقوق الإنسان في أوروبا، حيث تجد القوى الأكثر كرهاً للأجانب في تاريخ القارة العجوز دعماً متزايداً في بعض قطاعات السكان. دارت الحكاية في إحدى قرى ترانسلفانيا، سكّانها خليط متنوع من رومانيين وهنغاريين وألمان، قرية وديعة وخارج العالم تقريباً، لكن سكّانها سيتفجّرون غضباً مع حلول بعض العمّال السريلانكيين للعمل في مخبز القرية، ما سيفضي إلى رفضٍ وجودي من جانب القرويين لأكل الخبز من أيدي هؤلاء البشر ذوي البشرة البُنّية!

الآن، يقوم البريطاني كين لوتش، وشريكه الدائم في الكتابة بول لافيرتي، بفحصٍ مكافئ على الشاشة، هذه المرة في بلدة عمّالية إنكليزية دمّرها تفكيك طريقة الحياة التي اعتادتها، بعد مضاربة عقارية شرسة أطاحت بأسعار المنازل وفقرٍ أضحى يعانيه سكّانها بعد إقفال المنجم الذي كان مصدر دخلهم. في فيلمهما الجديد، "البلّوط العتيق"(*)، الوافدون/ المهاجرون هم بعض عائلات سورية استقرّت في قرية صغيرة شمال شرق إنكلترا، بعدما فرّوا من المقتلة في بلادهم ومن همجية نظام الأسد. وأول ما يواجهونه في ما يعتقدون أنه ملاذهم ارتياباً، وعنصرية، وعداءً، وعنفا، من بعض القطاعات غير المتعاطفة من القرويين، ممن يرون في هؤلاء الجيران الجدد تهديداً ونُسَخاً أضعف منهم، تٌقدِّم لهم الخدمات الاجتماعية جميع أنواع المساعدة بينما يعانون هم (أهل البلد) وضعاً اقتصادياً حرجاً. لا تستغرق النزاعات والمواجهات وقتاً طويلاً حتى تبدأ، ولكن تظهر أيضاً شخصيات أكثر دعماً وتفاعلاً مع الوافدين الجدد.

يبني لوتش ولافيرتي قصّتهما، كما هو الحال دائماً في أفلامهما الأخيرة، بطريقة صريحة للغاية ويتكشّف السياق بحملٍ تعليمي وتوضيحي في الحوارات، ولكن في الوقت نفسه يبدو المخرج (أقلّه في النصف الأول من الفيلم) أكثر تحفظّاً وهدوءاً في عرضه، أكثر احتواءً وأقل فجاجة. تشخيصهما واقعي ولا يمكن أن يأتي تصويرهما للوضع أكثر تشاؤماً، لكنهما لا يقاومان الإغراء لتوليد تنفيس جماعي طوباوي يردّد أصداء قناعة أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بضرورة التضامن بين المحرومين ولزوم اتحاد الضعفاء لمواجهة أنانية الأقوى، ليس فقط وفاءً لذكرى النضال العمّالي والنقابي، ولكن أيضاً للحاجة الحالية لكليهما.

إلا أن الوعي الطبقي والتضامن ينبثقان هنا - وفقاً للبناء الدرامي والسردي للفيلم - من حدثٍ مأسوي، وليس نتيجة لعملية نضال أو مشاركة جماعية في مواجهة المصاعب التي يعاني منها أفراد المجتمع المحلّي. هذا القرار الحاسم يذهب بالفيلم نحو أرض الاستغلال العاطفي ويبعده، بشكل متناقض، عن المسلّمات الماركسية التي يحلّل بها صانعاه، في البداية، إحداثيات المشكلة. التفاؤل بالمستقبل المُعبَّر عنه في آخر خمس عشرة أو عشرين دقيقة من الفيلم، يتجلّى، ليس فقط كـ"تويست" في الحبكة فرضه السيناريو (ومُعلَن مسبقاً)، وإنما أيضاً كملاذ عاطفي مجرّد يعطّل النداء القتالي الذي، من الناحية النظرية، يترجم التزام صانعي الفيلم بضرورة النضال والتضامن الجماعي بين أولئك المطرودين من رحمة التاريخ.

كل مِنّا، نحن الذين لا زلنا نؤمن ببقايا اليسار والقيم التي يمكن أن تمتلكها القوة المشتركة للناس، سنجد في فيلم لوتش عرضاً بلاغياً لفكرة معيّنة عن المستقبل. يتحدّث الفيلم عن أهمية قيام مجتمع متضامن، لا مجرد عمل خيري، في تكريس احترام الآخر. كما يتحدث عن الفظائع التي ولّدتها الأنانية في قلوب مجتمعات صغيرة رفضت الآخر ورأت في الفقراء العدو الرئيسي لثرواتهم ومعاشهم. عندما يتحدث عن هذه الأشياء، فهو يتوجّه مباشرة صوب إدانة الخطاب المتصاعد لليمين المتطرف في أوروبا تجاه اللاجئين والوافدين ويحاول استعادة قيم المدينة الفاضلة، حتى إنه يحفر عميقاً للبحث عن شيء من ذلك الزمن القديم عندما كانت الشيوعية/ الاشتراكية طريقة مألوفة للتفكير حول المجتمع.

في مواجهة مثل هذا الخطاب اليساري الواضح وموقفه المبدئي والراسخ في الدفاع عن الضعفاء والمهمّشين، والذي هو من ناحية أخرى شهادة وداع لسينمائي ملتزم سياسياً بامتياز؛ من المستحيل عدم التجاوب مع كلّ ما يخبرنا به الفيلم. ورغم كل هذا، فـ"البلوط العتيق" فيلمٌ مخيّب. لماذا؟

عندما تصبح السينما مجرد وسيلة لتأكيد القيم، وعندما تحتل الأيديولوجيا مركزاً رئيساً في خطابها النقدي (المفترَض)، يصعب على المرء، لسوء الحظ، إعلان تحفّظاته على فيلمٍ مثل فيلم لوتش. صعبٌ لأنه، للأسف، تختفي قوة البناء وتعقيد الخطاب النقدي تحت سحابات متراكمة من الغلالات الأيديولوجية، الحميدة وحسنة النية بالطبع. ينجح كين لوتش عاطفياً، لكن فيلمه يخلو تقريبًا من أي اشتغال نقدي أو تحليلي لأنه يعيش على قوالب نمطية ومناطق مألوفة ومواقف متوقعة، ولأنه يؤمن بالخير والشر فقط، دون فروق دقيقة، دون التفكير في أنه في بعض الأحيان لا يوجد أصلاً شيء بهذه السهولة والوضوح.

يقوم الفيلم على التناقض بين شرّ/ أذى القرويين المحافظين، وصلاح البطلة السورية، الذكية والجميلة. يأخذ لوتش كل شيء صوب المفارقة العاطفية، وتقفز القيم من الشاشة، لكن البناء نفسه متنافر وساذج. قبل سنوات، كان ممكناً التغلّب على هذه المعضلة، وبلع مقاربات مشابهة، لكن في أيامنا الحالية المطبوعة بالأيديولوجيا وثقافة الإلغاء، أصبح من الصعب تفسير سبب عدم إعجابنا بفيلمٍ نؤمن بخطابه ونؤيّده. من الصعب تفهُّم وهضم تلك الاقتراحات الفنية عندما يكون المنظورالسياسي لصاحبها أحادي الاتجاه أكثر فأكثر.

ربما يكمن مفتاح فهم الإحباط من الفيلم في مقارنة نهايته بنهاية فيلم "غداً يوم أفضل" للإيطالي ناني موريتّي (يساري عتيد آخر)، والذي عُرض أيضاً في المسابقة الرسمية لمهرجان "كانّ". ينتهي كلا الفيلمين بمسيرة تضامنية أقرب لوصيّة أخيرة، منفتحة على المستقبل وتحمل بعض الأمل. لكن مسيرة لوتش لا حول لها ولا قوة، ضعيفة وغير منطقية. بينما في حالة موريتّي، هناك دعوة مسبَّبة للتفاؤل والأمل بمستقبل أفضل. إذا كان للمرء أن يختار، فالسير في موكب موريتّي الخيار الأفضل.


(*) عُرض الفيلم في الدورة الـ76 من مهرجان كانّ السينمائي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها