الجمعة 2023/05/05

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

في محبّة جون ويك.. ووداعه

الجمعة 2023/05/05
increase حجم الخط decrease
تقول إحدى أشهر المقولات التحقيرية للعبة كرة القدم إنها عبارة عن 22 شخصاً أحمق يركضون وراء كرة لمدة 90 دقيقة، وبالمثل قد يجادل المقلّلون من شأن فيلم "جون ويك 4"(*) بأنه مجرد ثلاث ساعات من الرجال الذين يضربون و/أو يطلقون النار على بعضهم البعض. كاتب هذه السطور ليس مع هذا الرأي ولا ذاك. لن أكتب هنا دفاعاً عن فنّ كرة القدم، لكنّي سأحاول الحديث عن إنجازات وكشوفات الملحمة الفيلمية بشكل عام وجزئها الرابع الجديد على وجه الخصوص.

لفهم شهرة وجماهيرية وقيمة سلسلة أفلام "جون ويك"، يتعيّن على المرء أولاً فهم التنافر الأخّاذ لبطله الذي يعطي السلسلة عنوانها (يلعب الدور كيانو ريفز، 58 عاماً، الكندي المولود في بيروت). باطنياً، يبدو القاتل المأجور السابق مسكوناً بالوهن والحُزن، لكنه على المستوى المنظور يحقق أعلى معدلات الأداء البدني في قتل الخصوم وأتباعهم. في الأجزاء الثلاثة الأولى من قصة سلسلة أفلام الأكشن الأكثر نجاحاً في العقد الأخير، لم يرد ويك في الواقع ارتكاب أياً من عمليات القتل التي اقترفها (306 قتيل في رقبته، وفقاً لحسابات المُعجبين). لكن الأشياء تحدث، والظروف الخارجة عن إرادته تجبره على القيام بذلك في كل مرة.

في المشاهد القتالية الزاخرة بها السلسلة والمنظومة على نحوٍ رائع بمزاج وأنفاس كلاسيكيات الأكشن، يحيّد أرتالاً من رؤساء العصابات وغيرهم من أشرار العالم السفلي العالمي، لكنه لا يبدو متمتعاً بالتزام وثقة آلات القتل الأميركية السعيدة والعتيقة التي اعتاد أن يكونها آرنولد شوارزنيغر وسيلفستر ستالوني وبروس ويليس في أفلامهم. لا يعلّق جون ويك على عملياته المميتة بروح دعابة جافة كما اعتاد سابقوه، ففي عالمه ومنطقه لا يعتبرها أبداً أعمالاً انتقامية تنفيسية أو مجانية. ورغم ذلك، فإنه يتجاوز بسهولة معدّل القتل لرجل مفتول العضلات مثل رامبو (ذلك الرمز الأميركي العتيد)، عددياً وزمنياً.

كل ضربة من ضرباته تصيب هدفها، وفي كل لقطة تقريباً ضربة. إلا أن جون ويك، ذلك الجيش المكتنز في فردٍ واحد، ينطلق من موقع الدفاع عن النفس وزهدٍ في صناعة الخصوم والأعداء. يمكن رؤية استياء الرجل من قوّته المطلقة بشكل واضح قبل كل هجوم وبعده. وهنا تكمن معضلة جون ويك، الذي يجرّ نفسه مرهقاً من مسرح جريمة إلى آخر: يجب ألا تعيش آلة القتل حياة متحضّرة وهادئة (هو أصلاً كان قد تقاعد بالفعل في الجزء الأول، لكن الظروف اضطرّته إلى العودة إلى العمل وتوسيخ يده)، ولا أن تموت ميتة تعتقها من ذنوب وآثام الماضي (جسدياً لا يزال يعاني آلاماً وأوجاعاً). في هذا، يشبه ويك أبطال ألعاب الفيديو المعتمدة على القنص والرصاص: يتعرضوّن للأخطار باستمرار، لكنهم لا يُقتلون أبداً.


هذا من جهة البطل ومعضلته، أما في حسابات التجارة والصناعة، فهناك قصة أخرى تستحق الالتفات. تمثل سلسلة جون ويك حالة فريدة (أو نادرة جداً) في عالم سلاسل أفلام السينما التجارية، فهي ملحمة تنمو في جميع جوانبها مع مرور الوقت. كلّف الفيلم الأول (2014) 20 مليون دولار، وامتد لـ101 دقيقة وحقّق 86 مليوناً على مستوى شباك التذاكر العالمي؛ فيما امتد الفيلم الثاني (2017) 122 دقيقة حاصداً 172 مليوناً في الإيرادات؛ بينما ذهب الثالث (2019) إلى 130 دقيقة، وكلّف 75 مليوناً، وحصد 328 مليوناً في شباك التذاكر، في حين بلغت موازنة الفيلم الرابع 90 مليوناً، وامتدّ لـ169 دقيقة، وبالتأكيد سيحقق أفضل إيرادات في السلسلة بأكملها (حصد أكثر من 350 مليون دولار حتى الآن).

مثل هذا "التضخّم"، المتحقق رغماً عن كلّ الاحتمالات المسبقة تقريباً، لا ينتقص من، بل يعزّز النتيجة النهائية لهذا الجزء الرابع. يمكن لمتفرّج القول أن النسخة النهائية للفيلم كان يمكن أن تأتي أقصر بـ20 أو 40 أو 60 دقيقة، لكن الحقيقة إنه في هذه المراكمة والوفرة الفائضة والذرائع المفرطة، تحديداً، يجد الفيلم جانبه المميز وعلّة وجوده بالأساس. فبعد نصفٍ أول، لا تشوبه شائبة لكنه نوعي حتى النخاع، يصل "جون ويك 4" في شوطه الثاني (المصوَّر في أكثر الأماكن الباريسية رمزية، مثل برج إيفل أو قوس النصر أو كنيسة القلب الأقدس في مونمارتر) إلى أعلى ذروة، ليس فقط في هذا الفيلم وإنما في الملحمة بأكملها.



في هذا الفصل الأخير، يواصل جون ويك مهمته لإيجاد طريقة للخروج من وضعه وهزيمة "المجلس الأعلى"، المنظمة التي تحكم عالم القتلة بما يشبه مدونة الشرف أو دستور غير مكتوب، والتي كان جون ويك أحد أعضائها السابقين المشهودين. في الأفلام السابقة، رأينا جون ويك يواجه العديد من الأعداء الأقوياء لحماية نفسه والمقرّبين منه، وقد بدأ كل هذا عندما قُتل كلبه الذي منحته إياه زوجته قبل وفاتها. وفيما يحاول جون ويك اكتشاف طريق لهزيمة نقابة الإجرام العالمي تلك، يواجه تحدياً جديداً: عدو هائل النفوذ والقدرة، يملك تحالفات عالمية قوية. يمكن لهذا العدو الجديد تحويل أصدقاء ويك القدامى إلى أعداء، والأمر الأكثر صعوبة أن لديه صلات تجعل من الصعب على ويك هزيمته.

عبر عدد قليل جداً من جُمل الحوار، وتطوير للشخصيات في حدّه الأدني، والاكتفاء بعِظام الحبكة الأساسية؛ يبدأ جون ويك رحلته عبر نيويورك وأوساكا وبرلين، ولن يتوقف حتى يصل إلى محطته الباريسية المذكورة أعلاه. سيُلاحق في جميع أنحاء العالم، وسيحصل على بعض المساعدة في بداية المشوار. ثم يتصاعد التوتر حيث يتعيّن على جون ويك مواجهة خصمه الجديد في أثناء تعامله كذلك مع تداعيات أفعاله السابقة. حرب شاملة تنشأ بين جميع القتلة الذين يحاولون كسب مكافأة مقابل رأس جون ويك، وبين الأخير الساعي للانتقام من كلّ من ظلموه.

تأثيرات ومراجع جون ويك معروفة جيداً (كوريوغرافيا أفلام بروس لي القتالية، أسلوب جون وو المشهود، سينما الأكشن في هونغ كونغ في الثمانينيات، النوار الجديد على طريقة نيكولاس ويندنغ ريفن، ملحمة "ذا ماتريكس"، جماليات ألعاب الفيديو، والقصص المصوَّرة). وفي هذا الفيلم الرابع (وربما الأخير في السلسلة)، يأخذ المخرج تشاد ستاهلسكي هذا الخليط إلى أبعادٍ جديدة، مع مخاطرات ورهانات وطموح كبير، وتسلسلات طويلة في ملهى ليلي أو على درجٍ أو في الشارع؛ تحت الماء أو في لقطة متسلسلة لافتة تنجزها كاميرا علوية. وستكون هناك مبارزة بروح "السباغيتي ويسترن" على طريقة سيرجيو ليوني. وفي الختام، ستحضر لمسة غامرة وواضحة من الملحمية والرومانسية.

إذا كانت هذه هي بالفعل نهاية الملحمة، فإن "جون ويك 4" يختم قوس حكاية بطله بطريقة كبيرة ومميّزة، كافية لتخليد الكون الذي تصوّره وحمله كل من ستاهيلسكي وريفز في أربعة أجزاء مشهودة، بمثيولوجيا تخصّه وإرثٍ لا يُمحى.

ويبقى السؤال الكبير ما إذا كان جون ويك هذه المرة، بعد ثلاث ساعات تقريباً من القتل والتصفية، سيكون قادراً على الراحة كما تمنّى من البداية. مؤكّد يستحق التقاعد. رغم أنه من الصعب ألا نأمل في جزء خامس.

(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها