الجمعة 2023/05/26

آخر تحديث: 12:12 (بيروت)

"قتلة زهرة القمر": سكورسيزي يختبر صبر الجمهور.. ويكافئه

الجمعة 2023/05/26
increase حجم الخط decrease
مارتن سكورسيزي، الحائز السعفة الذهبية في العام 1976 عن فيلمه "سائق التاكسي"، لم يكن جزءاً من الاختيارات الرسمية في مهرجان "كانّ" السينمائي منذ تقديمه فيلمه "بعد ساعات العمل" في العام 1986، والذي فاز عنه حينها بجائزة أفضل إخراج. السبت الماضي - بعد 37 عاماً ومع بلوغه عتبة الثمانين - عاد أهمّ مخرج أميركي على قيد الحياة إلى مدينة "كانّ" في أفضل حالاته، مع فيلمه الجديد "قتلة زهرة القمر" Killers of the Flower Moon، في عرضٍ خارج المسابقة الرسمية كان الحدث الأكثر شعبية وانتظاراً في المهرجان، مع طوابير لا نهاية من الطامحين لدخول صالتي السينما اللتين عرضتا الفيلم في وقتٍ واحد.

لم يعبُر سكورسيزي بمفرده السجادة الحمراء لقصر المهرجانات، المطل ّعلى شاطئ كروازيت والذي كان مليئاً بالباباراتزي. بل فعل ذلك برفقة اثنين من ممثليه المفضّلين، ليوناردو دي كابريو وروبرت دي نيرو، النجمين المشاركين في الفيلم الذي سيحصل على إصدار محدود في دور العرض في نهاية تشرين الأول/أكتوبر المقبل قبل أن يهبط على منصة "آبل بلس"، صاحبة النصيب الأكبر من موازنة إنتاج الفيلم الذي عمل عليه سكورسيزي طيلة سبع سنوات.

الفيلم مستوحى من كتاب استقصائي بالعنوان ذاته من تأليف الصحافي ديفيد غران، وكتب السيناريو له إريك روث ومارتن سكورسيزي، وينطلق من واقعة حقيقية حدثت في ولاية أوكلاهوما في عشرينيات القرن الماضي، عندما بدأت سلسلة من جرائم القتل الوحشية لعدد من أفراد قبيلة أوسيدج (من السكّان الأصليين)، بعدما اكتشفت حقول نفطية غنية على أراضيها للتو. بعيداً من غياب أبسط القواعد القانونية المتبعة في مثل هذه الجرائم، لم يحدث تحقيق شُرطي قطّ حتى تدخّل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) – المنشأ حديثاً حينها - في وقت متأخر جداً.

يركّز "قتلة زهرة القمر" (يشير العنوان إلى الدورة القمرية التي تنسب إليها الشعوب الأصلية حلول الربيع والوفرة) على العلاقة بين البطريرك الأبيض العظيم في المنطقة، ويليام هيل (دي نيرو)، وابن أخته وربيبه، إرنست بوركهارت (دي كابريو)، الجاهل بقدر جشعه ويتلاعب به خاله الذي يطلق على نفسه "الملك"، ليستولي على أراضي السكّان الأصليين. خلال ثلاث ساعات ونيف يستغرقها سكورسيزي لسرد حكايته (أطول أفلامه حتى الآن)، يكشف المعلّم المخضرم بشكل منهجي خطة الملك الشريرة، والتي لا تستبعد زواج ابن أخته بامرأة من السكّان الأصليين (الرائعة ليلي غلادستون)، التي تعاني واحدة تلو الأخرى وفاة جميع أقاربها وأصدقائها المقرّبين في مجتمعها، الأمر الذي يحيلها وريثة أخيرة في خطرٍ، وهو وضع لا يبدو أنها تدركه تماماً.


ما يلفت الانتباه في فيلم سكورسيزي هو الطريقة التي يسيّر بها قصّته عبر خطّين متوازيين، إلى أن يتقاطعا في مرحلة ما. من ناحية أخرى، علاقة بوكهارت بزوجته معقّدة بدرجة كافية بحيث لا تتجاهل ما يحدث حولها وفي الوقت نفسه تستمر في الوثوق بزوجها ووالد أطفالها، الذي لا يتردد مع ذلك في استخدام الأنسولين المغشوش لتأخير شفائها من مرض السكّري وبالتالي الإسراع في وفاتها. في هذه النواة السردية، تظهر موتيفة متكرّرة في سينما سكورسيزي: شخصية الخائن، يهوذا الممزّق بين معضلة ضميره وطموحه الشخصي. بهذه الشخصية، يجسّد دي كابريو ربما أكثر أدواره "حقارة" حتى الآن، شخصية أقرب ما تكون لصبي كبير أحمق يستحيل صلصالاً طيّعاً في يدّ "الملك"، وبالمثل، يمكن القول إنه أفضل أداء لروبرت دي نيرو منذ سنوات.

من ناحية أخرى، في "قتلة زهرة القمر" يطفو السياق السياسي لعصره، والذي لم يتوقف سكورسيزي أبداً عن تفكيكه وفهم آلياته. فهو أظهر بالفعل في "كازينو" (1995) كيف يعمل النظام الرأسمالي الذي يحكم اقتصاد بلاده بشكل أساسي: مثل طاولة القمار التي لا يفوز فيها سوى مدير صالة القمار. بدوره، في فيلم "الأيرلندي" (2019)، ذهب إلى أبعد من ذلك ولم يتعمّق فحسب في عمليات تراكم رأس المال من قبل المافيا، وإنما أيضاً في اتصالاتهم السياسية والنقابية، الضرورية والأساسية لبناء السلطة الحاكمة. والآن في فيلمه الجديد، يفضح سكورسيزي العنصرية المتأصّلة في النموذج الاقتصادي الذي استولى به الرجل الأبيض على أراضي وثروات الشعوب الأصلية، فتنهبها السلطة الإقطاعية المحلية وتتجاهلها السلطة المركزية، وتتركها لمصيرها، ولا تتدخّل للقيام بدورها المفترَض إلا عندما يؤمّن وفد منها - بشق الأنفس - مقابلة مع الرئيس كالفن كوليدج.

ملاحظة أخرى تتعلّق بالكتاب المأخوذ عنه الفيلم، فهو كعادة الكتب الأميركية يحمل عنواناً فرعياً شارحاً - جرائم أوسيدج وولادة مكتب التحقيقات الفيدرالي - والذي لا ينعكس بأي شكل من الأشكال في الفيلم. صرّح سكورسيزي بنفسه - في مقابلة مع موقع "ديدلاين"، وُزّعت هنا في "كانّ" - أنه وكاتب السيناريو المشارك إريك روث قرّرا تحويل بؤرة القصة تماماً والتركيز على الجُناة بدلاً من تحقيق الشرطة الذي كان سيؤدّي إلى فيلم تقليدي. في الواقع، العميل الفيدرالي الذي وصل أخيراً من واشنطن (جيسي بليمونز) له دور ثانوي ولا يظهر إلا في الثلث الأخير من الفيلم، عندما يصبح الرعب الذي أطلقه الملك بالفعل مفرطاً لدرجة فقدانه أي سيطرة على الوضع، إلى حدّ أنه، من أجل التخلص من وريثَين، أمر بتفجير منزل بأكمله بالديناميت، ما أدّى إلى اهتزاز المدينة بأكملها.

ومع ذلك، فإن بناء القصة لا يمكن أن يكون أكثر كلاسيكية. لا مآثر هيكلية في "قتلة زهرة القمر"، كما الحال في أفلام أخرى لسكورسيزي، أفضل وأجمل. بالتعاون مع مونتيرته التاريخية، ثيلما سكونميكر، يختار سكورسيزي سرداً سلساً وخطّياً يعمل بالتراكم، حتى يفضي إلى خاتمة بريختية تقريباً يظهر فيها بصوته مذيعاً على الراديو سارداً نهاية حزينة للوريثة الأخيرة لقبيلة أوسيدج، مستحضراً مأساة امرأة ومعها شعب بأكمله.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها