الجمعة 2023/05/12

آخر تحديث: 14:27 (بيروت)

"حكايات البيت الأرجواني" لعباس فاضل: لبنان المنهَك.. لبنان الجميل

الجمعة 2023/05/12
increase حجم الخط decrease
"حكايات البيت الأرجواني"، آخِر أفلام عباس فاضل، والمعروض مؤخراً في بيروت ضمن مهرجان "شاشات الواقع"؛ فيلمٌ ساحر وباعث على الأمل رغم غرقه في اليأس والإحباطات. يعكس هذا العمل التسجيلي صورة لبنان المعاصر ومحنة النازحين السوريين فيه بصوت وعدسة أحد صناع الأفلام البارزين (فاضل نفسه) وزوجته الرسّامة نور بلّوق. يحاول الإثنان، من خلال الفنّ، نقل صورة لبنان السخي بجماله الفائق وروحه العميقة. ذلك البلد الذي أثقلت كاهله أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة، ووضعته على شفا الانهيار التام، فما عاد قادراً لا على تأمين مقومات الحياة لسكّانه ولا على أن يثنيهم عن اختيار المنفى الطوعي.

الفيلم، حائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان لوكارنو السينمائي 2022، يورّط مُشاهده في الأحداث الاجتماعية والسياسية الأخيرة في لبنان، عبر تقديمها من خلال الحياة اليومية لفنانين زوجين يعيشان في النبطية، جنوب البلاد، في منزل من طابقين على سفح تلٍّ مصبوغ باللون الأرجواني. نور بلّوق، زوجة المخرج ومنتجة الفيلم وبطلته وراويته، تعمل كشاهدة على الإحباط المتزايد لدى اللبنانيين من الطبقة السياسية الفاسدة في السلطة، كما تترجمه هجرة الشباب بحثاً عن أي مخرج بديل، وفقدان الهوية بسبب الاحتلال الإسرائيلي للأجواء اللبنانية أولاً، ثم بسبب أفاعيل المسؤولين التنفيذيين غير الأكفاء الذين أفقروا البلاد. إلا أن بلّوق تمثّل أيضاً الرغبة في نهضة شعبها والثأر له، بعد انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020.



كما في لعبة مرايا، اللقطات الموضوعية - لقطات بلّوق المُقرّبة - تتناوب مع اللقطات الذاتية، السائدة بطول الفيلم، حيث تهيمن رؤيتها على الواقع. في مركز هذه الرؤية تحضر نظرة الزوجة، والتي تقوم برحلة/حركة مزدوجة. من ناحية، تستقبل المعلومات من الأخبار المتلفزة، ومن زياراتها القصيرة إلى المعارض الفنية (الجائحة حاضرة بقوة)، ومن الانتفاضة الشعبية في الشوارع. وهكذا تظهر مخاوف بلّوق في أفكارها الموكلة إلى التعليق الصوتي، وتتضخّم من خلال كلمات ممثلين نراهم في مقاطع من كلاسيكيات سينمائية، مثل "ستالكر" (1979، أندريه تاركوفسكي)، تعرضها الشاشة المنزلية. تَجاوُر شاشة التلفزيون والنافذة المطلّة على حديقة البيت هو أفضل ما يلّخص حركتي نظرتها: من الشاشة إلى عينيها، ومن عينيها نحو الواقع الخارجي، الذي يحيل هنا إلى الطبيعة، بإيقاعاتها الحيوية القادرة على استعادة المعنى الحقيقي للوجود. وهكذا فإن الصهارة غير الواضحة والمزعجة للأحداث، والتي تقرّب بلّوق للحظة من مونيكا فيتّي في "الصحراء الحمراء" (1964، مايكل أنغلو أنتونيوني)، تفتح سبيلاً إبداعياً. تقول الرسّامة: "هناك مَن لا يعرف كيف يعطي معنى لوجوده ومَن يقضي وقته في التنبؤ بالمستقبل للاستعداد لمواجهته".

لذلك يبدو أن الفيلم يقترح طريقاً ثالثة للمضي قدماً في حياة لا تبخل بأسباب شقاء عيشها: أحط نفسك بجمال الطبيعة، واخلق عالماً مصغّراً يعكس كمال الكون، حيث تعيش النباتات والحيوانات في وئام؛ التقط عبر ضربات فرشاة الرسم الضوءَ الخلّاب لغروب الشمس، وسكينة ذلك الصياد المنزوي في ركن ما من الميناء، وتوتُّر الأغصان العارية للشجرة، وتدفُّق مياه النهر المُنسابة مثل أيام نصلّي لمرورها، فيما تبقى ذكريات الماضي لنحيا فيها ونأمل بمستقبل يضاهيها. خلف نظرة بلّوق الحسّاسة والمتأمّلة، يستشعر المرء نظرة متوارية لزوجها المخرج، الذي يغمر الفيلم بتسلسلات شعرية رائعة وجودة جمالية ملحوظة، تصبح فيها حتى الريح، والقطط النائمة، وقطرات المطر على زجاج نافذة المنزل، أبطالاً لسينما تدين مشاكل لبنان والعنف المستشري في مفاصل الحياة اليومية اللبنانية.


الأجواء مشابهة كثيراً لما شهدناه في فيلم فاضل الروائي السابق على هذا الفيلم، "يارا" (2019)، والذي حيّا فيه الطبيعة اللبنانية الوادعة والساحرة عبر حكاية نضوج لمراهقة ريفية تستكشف مكانها في العالم. لكن هنا ثمة مساحة للرعب والأهوال. الجمال والرعب حاضران ومتجاوران باستمرار في هذا الفيلم الممتد لحوالي ثلاث ساعات. وعالم الفن أيضاً، من خلال لوحات بلّوق، ومقتطفات الأفلام في شاشة التلفزيون، والتي عادة ما تنقل الأخبار إلى المنزل.

يعطينا الفيلم نظرة شخصية وشاعرية على ماضي وحاضر بلدٍ منهَك ومتعب. في الوقت نفسه، يُظهر أن الحياة اليومية مستمرة وأن الفنّ والجمال يشاركان فيها. عباس فاضل يبدو مقتنعاً بأن الجمال قادر على إنقاذ العالم، ولهذا السبب ما زال يعيش في جنوب لبنان على الحدود مع إسرائيل ويقبل خطر رؤية منزله مدمَّراً والموت تحت قنبلة بدلاً من العودة إلى باريس حيث يمكنه العيش (يحمل المخرج الجنسيات الفرنسية والعراقية واللبنانية).

وأخيراً، تبقى أكثر من مجرد إضافات في هذا الفيلم، بل تنحفر في ذاكرة المشاهد، تلك الوجوه العديدة للبنانيين غاضبين يتجوّلون في شوارع بيروت؛ أو الوجوه المفاجئة لإثنين من النازحين السوريين أمام صورٍ من فيلم فاضل الوثائقي "خبز مُرّ" (2019)، المصوَّر في وقتٍ سابق في أحد مخيمات اللاجئين بلبنان؛ أو أصوات الغناء المتغزّلة في بيروت، وتاريخها، وملامحها.

"حكايات البيت الأرجواني" فيلمٌ يشبه النهر، نظرة شخصية ورثائية (وآملة بالرغم من كل شيء) على لبنان وتاريخه الحديث، رحلة في ثلاثة فصول كبيرة وماتعة في أخاديد تاريخية وذاتية، تبدأ من طفولة نور بلّوق، التي فرّت بعد قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي لقريتها الحدودية، حتى تصل إلى الحاضر؛ رحلة صعبة وشاقة ولكن ينعّمها شيء من اللطف في علاقاتها مع الأسرة والعائلة والجيران، وتختتم بصور أرشيفية نادرة لبيروت المزدهرة قبل قرن من الزمان، عندما لم يكن التوازن بين الإنسان والطبيعة قد ضاع بعد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها