الثلاثاء 2023/04/25

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

رينوار في الهواء الطلق... مستحمّات وعاريات وعمل اقتناه بيكاسو

الثلاثاء 2023/04/25
increase حجم الخط decrease
تحت عنوان "فجر كلاسيكية جديدة"، يقيم "قصر روفيريللا" في مدينة رفيغة الإيطالية معرضاً مميّزاً يسلّط الضوء على خروج بيار رينوار من كنف المدرسة الانطباعية التي ساهم في تأسيسها، ودخوله في تجارب جديدة حملت طابعاً محافظاً تجلّى في تأليف أعماله بالدرجة الأولى. جاء هذا التحوّل إثر سفر الفنان الفرنسي إلى إيطاليا، وتنقله في مقاطعات عديدة، من البندقية إلى باليرمو، مروراً بفلورنسا، روما، كابري، سورنتو، نابولي، وكلابريا. خلال تجواله، تأمّل الرسام بأعمال المعلّمين القدماء، وعاد إلى الأسس الأكاديمية التي رفضها في السابق، وجنح نحو "انطباعية كلاسيكية" تجلّت في مجموعة من الزيتيات، منها مجموعة من العاريات أُنجزت بين 1876 و1900. 

يجمع مؤرخو الفن على اعتبار الانطباعية الفرنسية أولى مدارس الفن الحديث. وقد تطور هذا الاتجاه الفني في فرنسا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بفضل فنانين تحرروا من قيود العمل الأكاديمي داخل المحترف، ونصبوا أدواتهم في الفضاء الطلق حيث تتحول الطبيعة وعناصرها مسرحاً للألوان والخطوط الحية. أشهر هؤلاء الفنانين مونيه، مانيه، رينوار، بيسارو، وسيسلي. قبلهم، شرع دولاكروا في التحرر من ناموس الأكاديمية مسقطاً المسافة التي تفصل بين الرسم واللون، فلا يعود الفنان يرسم ثم يلوّن، بل يرسم في تلوينه. مع الرعيل الأول من الانطباعيين، يتحول هذا الاتجاه منهجاً صلباً يبلغ مداه الأقصى مع إسقاط الموضوعات الدينية والميتولوجية على اختلاف أنواعها.

يتوارى الموضوع الإنشائي، وتغيب اللوحة التي تروي سيراً وحكايات. يخرج الفنان إلى الهواء الطلق ليلتقط مشهداً يصوغه بريشته المغمسة بالألوان. ينطلق المصوّر من الشبه الأول إلى عالم الأشكال في محاولة لالتقاط الصورة المتجلية في إشعاعها الأول على شبكة العين. ويشكل هذا الموقف التشكيلي الراسخ خروجاً سافراً على مبدأ اتبعه الفنانون على مدى قرون طويلة، وأساساً لرؤيا جديدة يكتب أبجديتها رواد الانطباعية الكبار. ولد هؤلاء الرواد في الفترة الممتدة بين 1830 و1841، وشكّلوا جماعة فنية موحدة في باريس حوالي عام 1860، على الرغم من أنهم كانوا يختلفون في خلفياتهم وتوجّهاتهم. اتجه الإنطباعيون إلى العمل في الخلاء لتصوير الطبيعة مباشرة، وليس داخل جدران المرسم، واستعادوا في كثير من الأحيان المنظر الطبيعي الواحد مرات عدّة في أحوال جوية مختلفة.

شارك بيار أوغست رينوار في بناء صرح الانطباعية الفرنسية، واختصر أسلوبه في العمل بقوله: "علينا أن نكون جاهزين لإيجاد الموضوع. لا أمتعة ثقيلة نحملها. كل ما نحتاجه فرشاة أسنان وقطعة صابون". صوّر رينوار طوال مسيرته وجوهاً لا تعرف الألم والشقاء، ورسم مناظر طبيعية لا تعرف من فصول السنة سوى الربيع. عاش الفنان في خريف عمره أياماً عصيبة، إذ أًصيب بداء المفاصل، وبات يجد صعوبة بالغة في الجلوس، ثم بات حبيس الكرسي المتحرّك، وتغلغل الشلل إلى يديه، إلا أنه واظب على العمل وكان يربط الريشة إلى أصابعه ليرسم حتى وفاته في نهاية 1919.

ترك رينوار نتاجاً غزيراً يحظى بإعجاب العامة والخاصة على السواء، وكتب سيرته الذاتية عبر أعمال عديدة صور فيها زوجته وأولاده في مشاهد حية خرجت عن حدود البورتريه، وقد دخلت هذه الأعمال الحميمية الذاكرة الفنية العالمية وخلّدت ذكرى أبطالها في عالم الفنون التشكيلية. على عكس العديد من زملائه الذين عاصروه وعملوا إلى جواره، حصد رينوار نجاحاً كبيراً بعد سنين من الكفاح المواصل، فكُرّم في حياته وذاق طعم المجد قبل وفاته بعد صراع طويل مع المرض. عاصر الفنان الحرب العالمية الأولى، وشهد أهوالها، وأنهكه المرض في السنوات التي تلت هذه الحرب، غير أنه ظل ينظر إلى العالم بعين الرضا، مردّداً: "عندما ارسم الأزهار والورود، يجد قلبي الراحة".

في المقام الأوّل، برز رينوار كرائد من رواد الإنطباعية، وأشهر أعماله في هذا الميدان أربع زيتيات صنعت أسطورته، وهي وفقاً لترتيبها الزمني "حفلة راقصة في طاحونة لاغاليت في مونمارتر"، "الرقص في المدينة"، "الرقص في الريف"، و"في مسرح المنوعات". تعود اللوحة الأولى إلى 1876، وتتميز بحجمها الكبير، وفيها يكسر الرسام التقليد المتبع في تصوير ما يُعرف بالبورتريه الجماعي، ويصور الحياة كما هي. نحن أمام حشد من الشبان والصبايا، اجتمع أمام حلبة الرقص، وسط مقهى باريسي شعبي في حي مونمارتر. تبدو اللوحة للوهلة الأولى وكأنها مشهد رُسم من دون أي نظام، إلا أن تحليل الصورة يٌظهر قدرة الفنان على تجاوز هذه الفوضى في بناء محكم يتداخل فيه الأشخاص مع بعضهم ليؤلفوا وحدة لا تتجزأ في المكان الذي احتشدوا فيه. تعود لوحتا "الرقص في المدينة" و"الرقص في الريف" إلى 1881، وتؤلّفان لوحة ثنائية تشهد للتوجّه نفسه. تتجلّى هذه الخصوصية في لوحة "مسرح المنوعات" التي تعود إلى 1898، وفيها تبدو الصورة في تلقائيّتها كما لو أنها لقطة سجلتها كاميرا فوتوغرافية على غفلة.

يسلّط معرض "فجر كلاسيكية جديدة" خروج رينوار عن هذا النهج في سلسلة من الأعمال أنجزها بعد رحلة طويلة جال فيها في نَواح عديدة من إيطاليا في 1881، متنقلاً بين متاحفها وصروحها الفنية. عاد الفنان خلال هذا التجوال إلى حضن الكلاسيكية، وتأثّر بها كما يبدو، ويظهر هذا التأثير بشكل لا لبس فيه في عمل فريد من نوعه في مسيرة الفنان يبدو أقرب إلى رسم تخطيطي استعاد فيها نماذج ميتولوجية كلاسيكية، واللافت ان هذا العمل الذي يعود إلى 1895 كان من مقتنيات بابلو بيكاسو.

من جانب آخر، ظهر هذا التوجه في عاريات برزن في هذا المعرض، أقدمها عارية تعود إلى 1876، أي إلى مرحلة سبقت الرحلة الإيطالية. عنوان الزيتية "بعد الحمام" وتمثّل امرأة عارية في وضعية كلاسيكية، غير أن صياغتها التشكيلية تبقى انطباعية بامتياز. تلي هذه الزيتية لوحة تعود إلى 1881، عنوانها "المستحمّة الشقراء"، وتعكس تأثر الفنان برائد النهضة سلاندرو بوتيتشيلي. وهذه الشقراء هي ألين شاريغو، وهي خيّاطة استعان بها رينوار كموديل، ورسمها مراراً قبل أن يتزوّج منها في 1890. رافقت الموديل زوجها في مسيرته، وأنجبت منه ثلاثة أبناء: بيار، جان، وكلود، وقضت بمرض السكري عام 1915، وكانت في السادسة والخمسين من عمرها.

نشأ أبناء الرسام في كنف عائلة هانئة وتشرّبوا من ينابيع الفن والإبداع منذ الصغر. دخل الابن الأكبر بيار عالم السينما وامتهن التمثيل. كذلك برز الابن الأوسط جان في عالم السينما وأخرج أفلاما أشهرها "قواعد اللعبة" الذي كرّسه النقاد كواحد من أهم عشرة أفلام السينما. وقد رفع رواد "الموجة الحديثة" لواءه ورأوا فيه أبا لهم، بينما اعتبره أورسون ويلز "أعظم المخرجين قاطبة". غاص جان رينوار في النفس البشرية بنبلها وضعفها ووضاعتها، إلا أن الشخصيات الملعونة التي صورها لم تسقط أبدا في الجحيم، وقد أسبك عليها المخرج بعداً شعرياً جعلت من أفلامه نشيداً في حب الحياة يتجلّى في صور بديعة تحضر فيها الطبيعة بعناصرها الحية بصورة آسرة. في المقابل، تعلّم الابن لأصغر كلود فن السيراميك على يد أبيه، وامتهنه قبل أن ينصرف إلى الرياضة.

إلى جانب "بعد الحمام" و"المستحمة الشقراء" تحضر "مستحمّة تسوي شعرها" التي تعود إلى 1890، وتجمع كذلك بين التأليف الكلاسيكي واللمسة الانطباعية، وتليها "امرأة تنشف نفسها" التي أنجزها الفنان بين 1912 و =1914، في المرحلة الأخيرة من حياته، وتشهد هذه الزيتية لتأثر واضح بالمعلم الباروكي بيار روبنس. هكذا يبدو الفنان الانطباعي وريثا للمعلمين الكبار، غير أنه في كلاسيكيته يظلّ انطباعياً، كما تشهد كل أعماله التي عكست الأثر الكبير الذي تركته رحلته الإيطالية في هذه الحقبة من مسيرته الزاخرة بالعطاء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها