الخميس 2023/04/20

آخر تحديث: 15:17 (بيروت)

"تَحوُّلات الإنسان الذهبي" لنبيل سليمان... أقنعة الحمرنة

الخميس 2023/04/20
"تَحوُّلات الإنسان الذهبي" لنبيل سليمان... أقنعة الحمرنة
increase حجم الخط decrease
يمكن وصف رواية "تحوّلات الإنسان الذهبي" عن "دار خطوط وظلال"-عمَّان 2022، للروائي السوري نبيل سليمان، بأنَّها لوحة، بل مَشاهِدَ من الغروتيسك الذي يعني الغريب القبيح المُضحك المُخالف لكلِّ ما هوَ عقلي. المُتنكِّرُ المثيرُ لأسئلة تفتح باب جَدلٍ يتهكَّم ويسخر. ولعلَّها تعارض عنوان الرواية اللاتينية "تحوُّلات الجحش الذهبي"، للكاتب اللاتيني الأمازيغي لوكيوس أبوليس 125 – 180، ليُرينا شجاعة الحمار وتشجيعه لِبَني جنسه من الحمير في قول رأيهم في ما يجري للعباد من هدرٍ للحقوق في هذه البلاد: "مُتْ حِماراً مُتحمرناً ولا تَمُتْ خَروفاً مُستسلماً".
تتألف الرواية من أربعة فصول: "على شفا زلزال أو زمن تولاي"، "أطلال… لكنَّها تنبض"، "على شفا الزلزال"، "زمن الزلزال". وبطلها هو الراوي كارم أسعد الذي سيتحوَّل/يتقمَّص ليس بالمعنى الديني؛ أو سيغدو حماراً مزدرياً إنسانيته، ليروي بـ"أنا مركزية"، مرَّةً هو الراوي ومرَّةً هو نَدُّه، ما لا تمكن روايته لو بقيَ إنساناً، كما فعل عبد الله بن المقفَّع في "كليلة ودِمنة". إلاَّ أنَّ نبيل سليمان يختلف عنه فهو لم يستعر لحماره الأقنعة كما ذكر الحمار، أكان ما يرويه مأسوياً أو مُضحكاً، لأنَّه مثل الباحث- هناك ثبتٌ في آخر الرواية بـ134 مرجعاً ومصدراً، وهو يُسقط الحجج الفكرية للسلاطين الذين حكموا البلاد. وأوَّل ما يسترعي انتباهه في مُفتتح الرواية، ويثيره، ويستفزُّه؛ بدءاً من مدينة "أكياكا" في تركيا حيث دُعي للمشاركة في مهرجان أدبي، كَثْرةُ انتشار تماثيل كمال أتاتورك مؤسِّس الجمهورية في كل المدن التركية، قائلًا لمُضيفه أصلان: لماذا يا أصلان؟ لماذا يا كمال باشا أتاتورك؟ لماذا أيُّها الحصان؟ لماذا أيُّها الفنانون الذين تصبُّون تماثيل القادة العظام وتنحتون تماثيل القادة غير العظام؟ لماذا أيُّها القادةُ المهزومون المُنتصرون المَحبوبون المَكروهون المُتألِّهون الحالمون الغِلاظ المُتوحشون الفانون؟ لماذا أيُّها البشر الثوارُ العبيدُ الأحرارُ القطيعُ المُؤمنونَ المُلحدونَ الحالمونَ المُتوحشونَ الفانون؟ أصلان: صديقي: يصير عالم البشر مثل عالم الحمير؟ لا تمثال يا بشر، لا صنم، لا تماثيل يا بشر، لا أصنام.

جُملةٌ من نفسٍ طويل حانقة غاضبة صاخبة مجلجلة تضجُّ بأصوات فكر ضحايا الاستبداد. جملةٌ هي من نشيد الألم، وكأنَّ نبيل سليمان وقد ملأَ الزبد فمه وقد دخل في نوبةٍ تشنجية من شدَّة ألمه يصرخ: أيهذي الحياة لماذا تحكمنا الأوثان، هل تحجَّرت الأرحام، أوثانٌ تُسلِّمُنا إلى أوثان. نبيل سليمان في "تحوّلات الإنسان الذهبي" يفكُّ ختمَ الشمع الأحمر عن العقل، ليسرح ويمرح، ويقول لوكلاء القمع بأزيائهم السياسية والأمنية والإدارية والثقافية والإعلامية والحقوقية أنَّ الإنسان ليس رماداً، وأنَّه بملء إرادته قد صار حماراً. ففي محاضرة له دُعِيَ إلى إلقائها في تركيا يقول حماره موصِّفاً حال العرب: من ألقابنا الحميرية: الزعيمُ الأوحد، المجاهد الأكبر، المُلهم، الأخُ القائد. ونحن يا أجمل الحمارات مولعون بأفعال التفضيل. لدينا ثورات بعدد شعر رؤوسنا. نرفع شعار التحرير، ونوقّع معاهدات سرية معَ مَنْ يحتلُّ أرضنا. نتكلَّم عن الكفاح المسلَّح ونجعله كفاحْ مشلَّحْ. عندنا معارضة براتب، ومعارضة بمكافأة، وحكوميون معاونون للمعارضة، وقادة منظمات مسلحة دفاتر شيكاتهم أطول من الشريط الحدودي مع إسرائيل. يمعن نبيل سليمان في تهكمه من هذه المآسي، ذلك في استعراضه للتضادات التي تكشف عن الخواء الذي نعيشه، وهو يذهب نحو تحقيق البهجة أو الفرحة العنيفة- وهذا ما كان يرمي إليه، فيروي حكاياتٍ مليئة بالعنف، والعنف الدموي، الذي زلزل الكيانات العربية؛ بَهْجَةٌ تتحقَّق من تهكُّمِه من العنيف، والتهكُّم قد يُبهجُ وقد يُخيف، بل إنَّ التهكُّم يخفي أو هو كناية عن ألمٍ عظيم. 
من العِلم إلى اللَّاعِلم، يذهب نبيل سليمان في روايته التي مثلما هي رواية، هي ميتا رواية، هي دراسة؛ بحثٌ وحفر في تاريخ اغتصاب وعي الإنسان بحريَّته، ومن ثمَّ إلى الصدامٌ مع مغتصب هذه الحريَّة، لكن بشكل صدام احتفالي/كرنفالي، فنبقى مع مسوخ وكلاء القمع في علاقاتٍ/أحداثٍ متشابكة ومتفاعلة بين ما هو واقعي وما هو خيالي؛ سخرية، تهكُّم، تكشيرات، قرصات، لذعات، غزَّات- من غزَّ بالسكين، جدٌّ، هزلٌ، تحوُّل، تناسخ، انتقال، تنقُّل، استعارات، كنايات، رموز، إشارات، وتصريحات بالأسماء. فنضحكُ ونحن نكزُّ على أسناننا من الألم والرعب، عسى أن نَهزم بالضحك هذه الوحوش التي هدمت فيما هدمت جزءاً من بيت وسيارة كارم أسعد في نيبالين. وهذا ما زاد من غضبه، وكما دمَّر المُدمِّرُ ما دمَّره؛ نراه على مدى الزمن الروائي في روايته هذه يدمّر الشعور بالخوف من هذا المدمِّر بالسخرية والتهكُّم. فالإنسان الذي تحوَّل إلى حمار وعشق كومة نساء: أريام، لوزية، منصورة، غنوة أو زُلفى فيما بعد، تولاي، إيسون، دلير... في عددٍ من الدول العربية والأجنبية، وسافرَ وحاضرَ في مؤتمراتٍ أدبية عن الحمير، والتقى بكتَّاب تربطهم علاقات عاطفية بالحمير مثل الطيب صالح الذي التقاه في المغرب، ويسأله: إيش قصتك يازول مع الحمار؟ فيرد: القصَّة يا سيدي أني حمار، لا تغتر بمظهري كواحد منكم. أنا يا سيدي رهين الحمار الذي كنتْ، والإنسان الذي صرتْ، فيرد الطيب صالح: أنت أيضاً رهين المُحبَسَيْن. كُنَّا بواحدٍ صِرنا بإثنين.

لكنَّ حمارَ نبيل ذو طبيعة مُعارضة؛ فهو كما في الرواية مُعارضٌ سياسي وجمالي وفكري؛ لكل أشكال القمع والإذلال والإهانة التي نمارسها على الحمار، ونهزُّ فيها وقاره واحترامه؛ وأنَّ أدباء وروائيين ومسرحيين سبقوا نبيل سليمان في تقديرهم واحترامهم للحمار مثل توفيق الحكيم وإميل حبيبي ومحمود السعدني ومحمود شقير ووجدي الأهدل، إذ كفى الآدميين ارتكاب الحماقات ضدَّه. دعابة، حمار نبيل سليمان يُداعبنا، يستثير الابتسامة وهو يمارس نقده؛ أو وهو يُقيمُ جدلاً ثورياً مع القارئ في هذه الزلزلة العربية؛ فلا تُقنعنا الدولة بأنَّها تُجسِّدُ العقل والحريَّة. وأنَّ الوقائع على الأرض كما يراها حمار نبيل سليمان تُناقض العقل والحريَّة، وهي وبإصرار عنيد تتجاهلُ مطالب الحمار/ الحمير- نُذكِّر برواية "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل.

طبعاً الروائي نبيل لا يُراهن على وكلاء القمع بتخلِّيهم عن مسؤولياتهم التي لم يوكِّلهم بها الله، لكن كما يبدو؛ وهذا على الأقل؛ هو ضدَّ توليف واختراع مُؤلِّفي المهزلة العقائدية الأكاذيبَ التي تحملُ على الخضوع للطاغية، بحجَّة أنَّه وكيل الله على الأرض. لأنَّ حماره؛ وإن كان لا يملك حقَّ التمرد ولا القدرة على العصيان المدني والقبائلي والعائلي، إلاَّ إنَّه يرفض كما رأينا في فصول الرواية الأربعة، العيشَ في جنَّة الفساد التي يرعى بها مع أقرانه من الحمير.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها