الأحد 2023/03/05

آخر تحديث: 08:42 (بيروت)

ملهاة الطغاة

الأحد 2023/03/05
ملهاة الطغاة
تيمورلنك
increase حجم الخط decrease
ترك الروائي السوري خيري الذهبي، الذي غادرنا صيف 2022 في فرنسا، مجموعة من المقالات غير منشورة. وتقوم "المدن" بنشر مختارات منها بالاتفاق مع عائلة الكاتب.
بعد المقال الأول، هنا المقال الثاني:

حينما كنت في موسكو في الثمانينات من القرن الفائت، لفتني في سمرقند في أوزبكستان متحف وقبة ضخمة تسمى (كور أمير) وهي المدفن الرسمي لتيمورلنك، الغازي الشهير ومدمّر الشرق، حارق المدن والضياع، مفرق العائلات ورافع الأبراج من الجماجم.

استغرقت طويلاً في تأملي لهذه المقبرة ولتباين مفهوم البطل بين الشرق والغرب، فمن نراه مجرماً قاتلاً يراه غيرنا بطلاً مقدساً ويبنون له المدافن والقباب المزركشة بالقيشاني. وهل يمكننا فقط أن نحدّد من هو البطل بناء على أمجاد فتوحاته وانتصاراته بغض النظر عن أفعاله وانجازاته حضارية كانت أم لا!؟

هل البطولة هي الانتصار العسكري على الخصم، فقط!؟ أم هي تلك الرسالة التي تحملها في طيات معركتك؟

حينما احتل تيمور لنك بغداد قتل من قتل، وسبى من سبى ثم مضى إلى فتح سيواس، ولكنه وهو يحاصرها سمع بثورة البغداديين على واليهم التيموري، فعاد إلى بغداد. وتيمورلنك هذا مشهور بلا كلمته، فهو يعدل عن رأيه دوماً طالما استشعر انبطاحاً من الخصم أمامه أو توسلاً من قبله، وهذا ديدن الطغاة الذين لن يرتووا من دماء ضحاياهم، فكان يضع شروطاً ثم يضاعفها إن أحس قبولاً انهزامياً من الخصم.

فأعاد فتح بغداد المسكينة، وأمر بقتل كل سكانها ثم عدل عن رأيه وضاعف العقوبة، عقوبة من تمرّد على حكمه وفكّر بأن يحرّر بلده من المحتل، فأمر كل جندي من جنوده بحمل رأسين من رؤوس أهل بغداد إليه ومن يفشل، فسيكون رأسه بديلاً.

وهجم التيموريون المذعورون على من استطاعوا القبض عليه من أهل بغداد فقطعوا رأسه وحملوه إلى قاضي تيمور ليسجل أنهم أدوا الفريضة، ولكن الموتى كانوا أكثر من الأحياء، وكانت عملية البحث عن ناجين لقتلهم ونقل رؤوسهم إلى القاضي مرهقة عبثية، فعمل جند تيمور على إنقاذ من كان يتأوه تحت الركام ومن كان ينازع الغرق، ومن كان يقاسي حروق الجلد في الأسواق المحترقة، فقط لكي يستعيروا رأسه لساعات أمام القاضي، وفجأة ومن وحي الضرورة خُلق سوق لبيع رؤوس القتلى البغداديين، فصار هناك من الجند ممن أدوا فريضة الرأسين، يبحث عن رؤوس جديدة كي يحتكرها ويبييعها لاحقاً، فصار من لم يجد من يقتله يعمد إلى شراء رأسين يحملهما إلى قاضي تيمور، ثم نفدت الرؤوس المبيعة، فعمد الأشد اجراماً بينهم إلى قطع رؤوس النساء وحلاقة شعورهن لتقديمها إلى الطاغية.

 

(ضريح كور أمير) 

في الأناضول كان من أسباب انتصار تيمورلنك على السلطان العثماني بايزيد الأول أن تيمور راسل المرتزقة التتار الذين كانوا يحاربون مع بايزيد العثماني، ووعدهم بإعادة مراعيهم إليهم وإعطائهم أراض جديدة في قرا قورم.

فلما كانت الحرب إنحاز التتار إلى تيمور متخلين عن السلطان بايزيد، فقبض تيمور على بايزيد وأمر بعرض عشيقته ديسبينا عارية ترقص أمام جنوده فانفجر قلب بايزيد ومات في أسر تيمور.

أما في دمشق التي وصلتها جيوش تيمور فقد انتشرت أخبارها إلى بقية مدائن الشرق.

حين وصل تيمور إلى دمشق ارتعب السلطان الناصر فرج ذو الثلاثة عشر عاماً، ولكنه ما كاد يخرج بجيشه المظفر إلى الميدان حتى حملوا إليه رسالة أسقطوها بسهم محمولة على حمامة واذا بها تتحدث عن انقلاب يعد ضد السلطان الصغير في مصر، وكانت الرسالة والحمامة مدسوستين من تيمور.

توتر السلطان الصغير وما إن جاء الليل حتى انسحب بجيشه متعثراً إلى مصر متخلياً عن دمشق للغازي المغولي، وتفكك الجيش الهارب على الطريق، وتخلّى عن ذخائره وسلاحه، فقد كان الأهم الهرب بجلده من تيمور الأعرج الذي لا كلمة له ولا اتفاق.

استيقظ الدمشقيون ليجدوا انفسهم بلا جيش يحميهم ولا أموال فقد هرب بها السلطان وانتشر نداء المقاومة، فخرج الشبان يضربون جيش تيمور الذي لم يهزم، واستطاعوا خلال أيام طرده عن أسوار دمشق ثلاث مرات، فما كان من تيمور إلا أن عقد مؤتمراً للتشاور مع قادته، وكانت نتيجة الاجتماع أن أناساً يدافعون عن حياتهم وحياة أبنائهم هم أناس لا يهزمون، فما الذي سيخسرونه.

في اليوم التالي أرسل تيمور إلى أكابر أهل دمشق يقول "أعجبني اخلاصكم بالدفاع عن بلدكم وأهلكم، ولذا فقد قررت هبة المدينة لكم، ولكن لي طلباً بسيطاً هو مبلغ ألف ألف طومان كلفتني الرحلة اليكم، ادفعوا لي هذا المبلغ، وسأرحل عنكم".

أعجب أعيان دمشق بالعرض ومبلغ ألف ألف طومان مما يمكن جمعه دون تضايق من الناس، فجمعوا المبلغ، وأرسلوه مع مفتي دمشق تقي الدين بن الحنبلي، ومشيخوت آخرون ... ولكن تيمور ما أن عرض المبلغ أمامه حتى ثار: ألمثلي يحمل مثل هذا المبلغ؟

 ولما أخبروه أنهم جمعوا له ما طلبه أي ألف ألف طومان قال: "طومانكم رخيص وطومان بلدي هو بألف ضعف مما عددتم". ثم أشاح باحتقار "أعيدوا هذا المال لأصحابه فالهدنة قد رفعت وغداً يوم حرب".

عاد الوفد إلى دمشق منكسراً وكان العمال والفقراء والمدافعون عن الأرض والعرض قد بردت همتهم للقتال ولكن الأكابر أصروا على جمع الغرامة الجديدة، ومن أين لهم جمع ألف ضعف المبلغ السابق سوى من جيوب العامة والفقراء، فكانت حرب أهلية بين الفقراء والأغنياء وحُماتهم، فابتسم تيمور في سعادة فلقد نجحت خطته فها قد اضطربت الأهالي وقارعوا بعضهم بحثاً عن المال، من أجل أن يشتروا حياتهم بالمال.

وكرت الأمور كالمتوقع، وسلمت المدينة لرحمة تيمور الذي كان مصحوباً بطعم الدم البغدادي. وكرت السبحة ودمرت المدينة وقتل رجالها الا من هرب أو اختبأ في بئر الخ . كان تيمور لنك يتسلى، يلاعب خصومه بقدرة كبيرة، ينكث الوعود، يخرق العهود، يهدم القواعد والأخلاق.

 يحدثنا المؤرخ الدمشقي الذي اختطفه تيمورلنك فيمن اختطف من دمشق والعواصم الإسلامية وحمله إلى سمرقند ليبدا هناك الحضارة الجديدة، ابن عرب شاه والذي أتيحت له الفرصة النادرة حين اجتمع بعلماء الإسلام المخطوفين فتعلّم على أيديهم في المنفى، وصار من أكبر علماء ومترجمي عصره.

ابن عرب شاه هذا يصف جيش تيمورلنك والذي اشتهر بوحشيته الفائضة، فيفاجئنا بأن الجيش التيموري لم يكن مغوليا فقط، ففيه العرب والكرد والتركمان والهنود والأفغان والكرج إلخ، بل كل المهزومين الذين رأوا أن الانضمام للوحش قد آن أوانه أخيراً، وأن فرصتهم في العيش المنفلت من القيود قد أزفت، وما ذكرني بهذه القطعة هو تهاطل المتطوعين من كل الأمم على داعش وبقية الميليشيات في شرقنا الحزين: لماذا؟ وما المغري في جيش قائم على قطع الرؤوس، وذبح الأبرياء واغتصاب النساء وقتلهن. المفاجئ هو أن في أعماق الكثيرين من الناس يكمن هذا الوحش قمعه القانون والنظام والمدينية، فإذا ما قرر قوي ما جعل الوحشية ديناً والاغتصاب عرفاً، وقطع الرؤوس طريقة حياة تقاطر عليه المكبوتون والمتخفون خوفاً وتحولوا إلى وحوش. إنه الوحش الذي انبثق أيام تيمورلنك فهل ينبثق ثانية!

 

 

 

 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها