السبت 2023/04/01

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

المخرج لوكاس دونت يتحدث لـ"المدن"..عن الألفة والذكورة وفقدان الحنان

السبت 2023/04/01
increase حجم الخط decrease
مثل نهرٍ يبدو هادئاً على سطحه، لكنه يكشف عن اندفاعه حين الانغمار في مياهه، يقترح "مقرّبان"، الفيلم الروائي الثاني للمخرج البلجيكي لوكاس دونت، دراما من العواطف المتدفقّة تحت واجهة تجعله في النهاية حميمياً وشاعرياً بقدر المسافة التي يأخذها من موضوعاته. قد يعتقد المرء أن مثل هذه الثنائيات، المتعارضة على ما يبدو، نتيجة تناقض تظهر آثاره على الشاشة، وينتج عنه صدامات سردية أو فجوات مزاجية بين السطور. بعيداً من ذلك، يولّد الفيلم توتراً درامياً خفياً، لكنه قوي وفعّال، وبرغم ولادته من أحداث الفيلم نفسها، إلا إن ساحة معركته الحقيقة ستكون داخل كل متفرّج.

يبدأ الفيلم كبورتريه للصداقة بين ليو وريمي، ولدان يقضيان الصيف الأخير من طفولتهما، تحديداً في ذلك العمر بين الطفولة والمراهقة عندما تبدأ الرغبات الجنسية في الظهور بطريقة مربكة وغير واضحة. كما في الحياة نفسها، دخولهما إلى سنّ البلوغ يعني بدوره أن معركة شرسة ستبدأ في داخلهما، وفيها تشقّ الملامح الأولى للبلوغ طريقها عبر طفولة تتلاشى. وهنا، يكشف دونت، ابن الـ31 عاماً، عن نفسه كمرشد عواصف، ليس ماهراً فحسب، وإنما هو أيضاً متعاطف وحسّاس، قادر على مرافقة بطليه الصغيرين في هذه العملية من دون أن يصبح وجوده واضحاً أو مجتاحاً.

يرسم المخرج صورة شاعرية لذلك الصيف الطفولي الأخير، يتصرّف فيها ليو وريمي (إيدن دامبران وغوستاف دي وايلي، في ظهورهما الأول أمام الكاميرا) كما لو أنه لا حدود بينهما، كما لو أنهما لا يمكنهما تصوّر الحياة من دون حضور بعضهما البعض. يفعل ذلك عبر تخليق وتشييد علاقة قوامها سجّل دقيق وبسيط (لكن ليس بريئاً) من النظرات والألعاب التي تتضمّن دائماً اتصالاً جسدياً أو ليالي نوم تجمعهما معاً على سريرٍ واحد. هل هناك شيء أكثر من الصداقة في مثل هذه العروض الطفولية الشقية والحنونة التي يبذلها الولدان على بعضهما البعض؟ على الفور، بذكاء وأناقة، يجعل المخرج تلك التساؤلات المتشكّكة ذاتها تظهر بشكل حرفي على الشاشة، ما يضع المُشاهد أمام مرآة غير مريحة. يرفض الفيلم إعطاء إجابة واضحة، وبدلاً من ذلك يطلب من جمهوره التشكيك في سلطته التفسيرية.


لكن الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ (ولا يمكن كشف المزيد عن حبكة الفيلم عند هذه المرحلة)، إذ يسمح المخرج لشيطان عالم البلوغ والبالغين بإيصال ذيله إلى أبعد من ذلك، لأن ليو وريمي، مثل أي طفلين في عمرهما، سيطاولهما تأثير تلك الأسئلة المُشكّكة في علاقتهما، البريئة منها والكارهة النابذة؛ ما يفضي بدوره إلى تمزّق في علاقتهما سيكون طفيفاً في البداية، لكنه سيكون فاتحة صدع كبير يفصلهما تدريجياً. بمشاعرٍ متوترة، وعدم فهم كامل لسبب تغيُّر القواعد أو كيف تعمل القواعد الجديدة، سيفعل ليو وريمي ما في وسعهما. وسيبقى دونت هناك، بالقرب منهما، يُظهر من دون أن يكشف، ويرافق مندون أن يعطّل الطريق برموز أخلاقية أو موسيقى تصويرية سيئة النيّة والمقصد. فقط، سيترك كاميرته لتصير قناة مفتوحة، حتى يتمكّن الجميع من التواصل مع قصّة يصعب خوضها (فضلاً عن تجاوزها) دون دموع.

هل الجملة الأخيرة تعني أن الفيلم سنتمنتالي؟ ليس بالمعنى السيئ للكلمة، رغم ميله في نصفه الثاني إلى الميلودراما. يضرب الفيلم وتراً حسّاساً بقصّته وأسئلتها التي من المرجّح أن تلقى صدى لدى أي شخص وكل شخص، بغض النظر عن جنسه أو ميوله الجنسية. ما سلوكيات وأساليب معاملة الآخرين التي يسمح لنا بها المجتمع؟ وماذا يحدث عندما لا ننسجم مع هذه الأنماط المفروضة اجتماعياً؟ وكيف تنجو الهشاشة الإنسانية وسط بيئة عنيفة لا تُقدّرها؟ هذا ما يواجه ليو وريمي منذ الدقائق القليلة الأولى للفيلم، في عالمٍ جديد مصغّر (المدرسة) يعيد إنتاج وجهات نظر أغلبية مجتمعية عن الذكورة والحميمية.

بعيداً من بعض القرارات الفنية الحادة وهروب الفيلم عن سيطرته أحياناً، يقترب دونت من موضوع الحنان الذكوري كما لو كان أطروحة. ففي عالمٍ أصبح فيه كل ما يتعلّق بالمذكَّر دليلاً فطرياً لا يمكن دحضه على الذنب، نسخةً مُحدَّثة من خطيئة حواء التوراتية؛ يبدو توقيت مقاربة دونت مطرّزاً بالتوفيق التامّ. في هذه الحكاية، يُظهر فقدان البراءة أسوأ وجوهه تحديداً في ذلك الحظر الذي يفرضه "رأي المجتمع" على الأولاد حين يغدون رجالاً. لم يعد هناك مجال للعناق بين الأولاد أو لظهور المشاعر في الأماكن العامة. "الرجال لا يبكون"، يبدو الشعار الشائع استكمالاً لهذا العُرف المُحدِّد لما يجب أن يكون عليه الرجال. نظرة الآخرين هي ما تثبّت في ليو وريمي فكرة أن هناك شيئاً ما بداخلهما، في تلك المودّة التي لديهما تجاه بعضهما البعض، وأن هذا في غير محله ويجب إعادة ترتيبه حتى لا يصيرا عُرضة للتعليقات. كل هذا يقوله الفيلم متجنّباً الإدلاء بتصريحات مُشدّدة وخطبٍ منمّقة، وإنما من خلال تقديم تلك الإيماءة الثورية غير المتوقعة المتمثلة بمجموعة من الرجال القادرين على احتضان بعضهم البعض، دون أن يصبح هذا فعلاً مشبوهاً.

"المدن" التقت لوكاس دونت للحديث عن فيلمه، والذكورة، والألفة، وفقدان الحنان.
(تنبيه لمَن لم يشاهد الفيلم بعد: في المقابلة حديث عن مشاهد محورية في الحبكة).

- قرأتُ أن فكرة الفيلم خطرت لك من خلال دراسة. أي دراسة؟

* كانت دراسة أجرتها نيوبي واي، وهي عالمة نفس أميركية. استطلعت فيها آراء 160 صبياً من أسر منخفضة الدخل حول أصدقائهم الذكور. كرّرت هذا على مدى سنوات وقارنت الإجابات مع تقدُّم العمر. في سن الـ13، تحدّث معظمهم عن أصدقائهم كعشّاق تقريباً. هم أهم الناس في حياتهم، والأشخاص الذين يشاركون كل شيء معهم. في سن الـ16 و17 و18 عاماً، يتغيّر الأمر. أجاب الأولاد أنفسهم على الأسئلة نفسها بشكل مختلف تماماً. فهم يبتعدون عن بعضهم البعض أكثر فأكثر، ويقدّرون أشياء أخرى أكثر من الصداقات. على سبيل المثال، العلاقات الرومانسية.

- وكيف انتقلت من هناك إلى الفيلم الذي أنجزته؟

* عندما قرأتُ الدراسة، تعرّفت فيها على نفسي. لأنني نشأت صبياً في الريف الفلمنكي، وواجهت في وقت ما مشكلة في بناء علاقة حميمة مع الأولاد الآخرين، لأنه كان يبدو مثار سخرية وريبة من الجميع. أعني من وجهة نظر جنسية. ولم أكن مستعداً لقبول هذا الرأي في ذلك الوقت، ولهذا السبب ابتعدت كثيراً عن أصدقائي الذين أرادوا البقاء على مقربة. أدركتُ أن هذه ليست مشكلتي الشخصية، بل مشكلة أكبر. مشكلة تتعلّق بإدراكنا للذكورة. وأردت إنجاز فيلم عن ذلك الأمر. أردت أن أصنع فيلماً يُظهر روابط الصداقة هذه، وإنما أيضاً ما يمكن أن يعنيه فقدانها.

- وهل فقدان الحميمية في الصداقات أمر لا مفرّ منه في أعقاب البزوغ الجنسي المرتبط بمرحلة البلوغ؟

* أعتقد أن هناك تصوراً شائعاً بالغرابة حين رؤية شباب يتمتّعون بهذا القُرب الأليف من بعضهم البعض. نحن مشروطون بصورٍ يكون فيها سياق الرجال القريبين من بعضهم البعض جسدياً، واحداً من اثنين: عراكاً أو شيئاً جنسياً. عندما نرى شابّين مستلقيين في السرير معاً ولا يُذكر أي من هذين السياقين، نشعر بشيء من الإنزعاج. أعتقد أننا نسمح فقط للشباب بأن يكونوا حنونين في سياق محدود للغاية. في الصداقات النسائية، الأمر مختلف. هناك تطبيع مع تلك الصورة وذلك الحنان المطبوعة به الصداقات النسائية. لذلك لا أعتقد أن فقدان حميمية الصداقات أمر محتوم. لكني أحسب أنه عندما تكون طفلاً وتواجه شخصيتك الأخرى للمرة الأولى، فإن ذلك يُحدث شيئاً لمعظمنا. عندما ندرك أن هناك قواعد سائدة ومعايير وتسميات ومفاتيح. ثم نتكيّف. هناك أشخاص، أعتبرهم شجعان جداً، لا يمانعون في أن يكونوا مختلفين. لكن كثراً منّا يريدون التطابق، والانتماء إلى مجموعة، وتلقي الحبّ من كثيرين. أفكّرُ في الأمر باعتباره موجة. من الصعب تجنّبها، خصوصاً عندما تكون صغيراً.

- هل تعتقد أن الفيلم نجح في تشجيع الشباب على البحث عن هذا التقارب والحميمية مع أصدقائهم؟

* سأكون سعيداً إذا تمكّن الفيلم من القيام بذلك، لكني أيضاً أدرك حدوده. أعبّرُ عن وجهات نظر للعالم من خلال الفيلم. أكتبُ الشخصيات وأحمّلهم أفكاراً معينة. لكن الشخصيات ليست أناساً حقيقيين، بالضرورة. آمل أن يشعر شخص ما بالارتباط بالفيلم ومنظوره أثناء مشاهدته. وهذا، أيضاً، شيء لا أستطيع فعله بالضرورة. لهذا السبب فالحديث حول فيلمٍ ما مهمٌّ للغاية بالنسبة إليّ. السفر إلى العديد من الأماكن والتحدّث إلى العديد من الأشخاص حول موضوعات الفيلم لا يقلّ أهمية عن التعبير عن الموضوعات في الفيلم. لأنه، شخصياً، يهمّني تشجيع الناس، لا سيما الشباب، على أن يكونوا متقاربين. تتعلّق العديد من مشاكلنا الاجتماعية بفقدان القُرب والتعاطف. سواء من الآخرين أو من أنفسنا. وأرى من المهمّ استعادة هذه القيمة.

- ومع ذلك، في قرار انتحار ريمي، أنكرت تلك الألفة تماماً على شخصياتك. لماذا فعلت ذلك؟

* بسبب الدراما بالطبع (يضحك). لكن بجدّية، أعتقد أن الفيلم يجب أن يكون تجربة مؤثّرة ومن أجل ذلك عليك اتخاذ خيارات غير متوقعة. لم نرد أن نجعل الفيلم متوقعاً للغاية. أيضاً، ربطناه (الانتحار) مرة أخرى بفكرة الصداقة كمكافئ للرومانسية. انكسار القلب يرتبط دائماً بالعلاقات الرومانسية بدلاً من الصداقات. أردنا أن نظهر مدى أهمية هذه العلاقات لحياة المرء وأنه ينبغي الاهتمام بها. الكلمات الأولى التي كتبتها في النصّ كانت "هشاشة" و"وحشية". لأنني أردت إظهار هشاشة مثل هذه العلاقة. كم هي جميلة، وإنما أيضاً كيف يمكن أن تنكسر بسرعة وبشكلٍ كبير. ولهذا السبب أصبح الفقدان موضوعاً كبيراً أيضاً.

- صوَّرتَ الفيلم أثناء الجائحة. هل أثّر هذا في قرارك إعطاء موضوع الفقدان مثل هذا الدور المهم؟

* بالتأكيد. بالنسبة إلي وللعديد من الأشخاص الآخرين، كانت الجائحة وقتاً لم أتمكّن فيه من زيارة الأصدقاء أو العائلة. أدّى ذلك إلى الكثير من فقدان الاتصال. وبعد ذلك، بالطبع، كانت هناك خسارة حقيقية لمعارفٍ وأحبّاء. علّمتني الجائحة أيضاً مدى أهمية التحدّث مع بعضنا البعض والبقاء على اتصال. لأنه بقدر ما يحيط المرء نفسه بالناس، لكنه دائماً ما يظلّ، بطريقة ما، مثل جزيرة. يمكن أن نكون قريبين جداً من أشخاص آخرين ونبقى مع ذلك غير مدركين لما يدور بداخلهم.

- على ذِكر الانفصال بين البطلَين، نحن نختبر هذا التمزّق ليس فقط على مستوى الحبكة، لكن أيضاً على المستوى البصري..

* أنا شخص بصري للغاية. عندما أكتب سيناريو، أفكّر مثل مصمم رقصات أكثر من كَوني مؤلفاً. أحاول التفكير من حيث الحركة واللون والمحيط والأزياء. لذلك عندما كنت أفكر في هيكل الفيلم، كان في رأسي خطّان منفصلان. أردتُ حقاً أن يحتوي الفيلم مشهداً يلتقط هذه الحركة، يُظهر هذا الانقسام بينهما. في النهاية، اتضح أن هذه اللحظة أثناء ركوبهما الدراجة: يمشي أحدهما في جانب، فيما الثاني يأخذ الآخر.

- هل هناك صور أخرى محورية بالنسبة لك في الفيلم؟

* بالنسبة إلي هناك صورة وزيّ كانا محوريين جداً. الصورة عبارة عن لقطة لطفلين في حقل زهور. ربما هو اللاوعي الذي يجعل من هذه اللقطة مهمّة جداً، لأن الزهور كانت جزءاً أساسياً من نشأتي في الريف. لذا، بالنسبة إلي، كانت دائماً صورة للطفولة. لكني اعتقد أيضاً أنها كانت صورة مناسبة، من حيث الألوان، لهذه المرحلة من الحياة. مثل صبيّان يركضان في كتابٍ مصوَّر. حين أفكّر في الأمر بشكل أكثر وعياً، تتبادر إلى ذهني كذلك هشاشة الزهور وسرعة زوالها. حصاد الحقول، وقطف الزهور، وتغيير الدرجة اللونية للفيلم إلى اللون البني ثم ترك الألوان تعود ببطء، كان طريقة للتأكيد بصرياً على تقدُّم الفيلم. أما الزيّ المحوري، فهو زيّ هوكي الجليد. في "فتاة" [فيلمه الأول - المحرر]، كانت الملابس مهمة جداً لإظهار جسد الشخصية الرئيسية. هنا، العكس هو الصحيح. الزيّ يشبه الدرع تقريباً، وبإمكان ليو الاختباء فيه، ولكنه أيضاً مُحاصر بداخله. لديه أيضاً قناع أمام وجهه. يسمح له بلعب دور، ولكنه يمنعه أيضاً من مواجهة نفسه وذنبه.

- هل هذا النوع من السرد المرئي وسيلتك للتعبير عن أشياء لا تستطيع الشخصيات نفسها القيام بها؟

* تماماً. أعتقد أن هناك الكثير مما يتجاوز الشخصيات. غرفة ريمي، على سبيل المثال. أعطيناها لوناً أحمر حسّياً للغاية، لأننا عرفنا أن جوّ الغرفة يمكن أن يتغيّر على مدار الفيلم ويتكيّف نوعاً ما مع مشاعر الشخصيات. حتى إن لم يفهموا مشاعرهم على الإطلاق وتصارعوا معها. لهذا السبب لا يظهر الانتحار. لم نرغب في إظهار العنف، بل آثاره، وآثار الفقدان، والشعور بالذنب، والعنف الداخلي الذي يتسبّب فيه مثل هذا الحدث. بالنسبة إلي، من المهمّ التحدّث عن موضوع الصراع الداخلي. من المهمّ بالنسبة إلي أن أُظهر ذكوراً لا يتشاجرون مع بعضهم البعض، بل يصارعون أنفسهم. كنت أعلم أننا بحاجة لصورٍ تشير إلى ذلك. صور تحفّز خيال الناس. حاولنا أن نجعل الشخصيات تقول ما عندها دون الحاجة إلى كلمات.

- بهذا الفيلم تكون قد صنعت فيلمين يميّزهما العنف الداخلي لشخصياتهما. هل تريد أن يتغيّر هذا في مشروعك المقبل؟

* أقرأ كثيراً في الوقت الحالي للتوقّف عن تحليل "مقرّبان" وتصفية ذهني. لكني بالتأكيد لديّ فكرة أساسية عما أريد القيام به تالياً، وهو في الواقع يسير في اتجاهٍ مختلف. من الخطر دائماً الحديث عن ذلك مبكراً، ربما سأغيّر كل شيء مرة أخرى، لكني سأكتفي بالقول إن فيلمي المقبل سيكون أكبر ولن تدور أحداثه في الوقت الحاضر.

(*) يُعرض الفيلم حالياً في منصة "موبي".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها