الخميس 2023/02/09

آخر تحديث: 16:50 (بيروت)

أوهام نهاية الرقابة العربية

الخميس 2023/02/09
أوهام نهاية الرقابة العربية
شبح الرقابة
increase حجم الخط decrease
منذ مدّة، توهّمنا أنّ أخبار الرقابة العربية وقيلها وقالها، ستنتهي إلى غير رجعة في زمن الإنترنت، وسيرمي الرقيب مقصّه جانباً ويتقاعد عن أفعاله المشينة والمخزية بحق المصنّفات الابداعية، المسرحية والسينمائية والأدبية... صحيح أنّ طوفان الإنترنت قرّب المسافات وجعل ثقافة شعوب العالم في متناول اليد، هدم الجدران وكسر القيود والأطواق، لكن في الكواليس اللبنانية والعربية، ما زلنا نسمع عن مئات الكتب الورقية التي تمنع في المعارض، وتمنعها الرقابة لمجرد قراءة عناوينها، أو نتيجة وشاية اجماعية أو دينيّة أو سياسيّة من هنا وهناك.

بعض أبرز دور النشر اللبنانية، تهرّبت من طباعة الكثير من الكتب لمجرّد الشعور أنها ستُمنع في المعارض، المكان الأهم والأبرز لتسويق منتجها، وبالتالي تتعرّض لخسائر جسيمة، مع التذكير أنّ بعض الدور كان يرتكز على المنع لتسويق كتبه، لكن هذا الأمر تقلّص بشكل كبير بفعل قرصنة الكتب عبر مواقع الإنترنت.

وفي الأسابيع الأخيرة، قرأنا ثلاثة تعليقات ثقافية، تتطرّق إلى الرقابة التقليدية التي تمنع الكتاب، إلى جانب رقابات جديدة فرضتها التحولات الثقافة والميديائية في العالم. وهذه المقالات ربما تختصر مآل الرقابة في العالم العربي، وتحديداً الرقابة التي تتعلّق بالكتب.

فالشاعر والناقد شربل داغر كتب في تغريدة فايسبوكية:   
عرفتُ من أحد ناشري كتبي - وبالصدفة - خبرَ منعِ أحد كتبي في أحد البلدان العربية (وربما في غيرها) مؤخراً.
وعندما سألتُه عمّا يريد القيام به، أخبرني، بل طلب مني عدم الحديث عن الأمر. ولما سألته عن السبب، أجابني أن هذا أفضل للكتاب، إذ إن الإعلان عن منعه قد يدفع بلداناً أخرى إلى الإجراء نفسه...
ماذا تقولون في الأمر؟
أعرف أن شعري ليس بخطورة شعر بودلير، ولا رواياتي متجرأة مثل رواية سلمان رشدي الشهيرة، ولا بحوثي بجرأة ما كتبه معروف الرصافي.
هل أسكتُ؟ هل أتغاضى عن الأمر بحجة عدم إخطار رقيب غافل عن دوره القبيح؟
ماذا ترون؟" 

هناك عشرات الوقائع والمرويات والحوليات تتشابه وتتماثل مع ما كتبه شربل داغر، وتحصل يومياً في العالم العربي، وباتت مملّة من كثرة تكرارها في السرّ وفي العلن، ولم يعد الرأي العام متحمساً للحديث عنها أو التطرّق إليها. بعض الناشرين يصعد من خلال البيانات والتعليقات الفايسبوكية، وبعضهم الآخر يلجأ إلى الصمت تفادياً لمزيد من الرقابة، ذلك لأن الرقيب الذي يمنع كتاباً في المرة الأولى، قد يتطور معه الأمر والمزاج الأمني ويمنع الدار كلها من المشاركة في معرض، وهذا حصل سابقاً في بعض البلدان...

وعدا عن هذه الطريقة السلطوية والتقليدية في الرقابة والمنع، كتبتْ الروائية العمانية جوخة الحارثي مقالة بعنوان "الرواية وثيقة أم تخييل؟ في مجلة "الدوحة" الثقافية(يناير 2023)، عن الرقابة الاجتماعية التي تعرضت لها، قائلة: 
"أن الخطاب التخييلي في الرواية يعيد كتابة التاريخ الاجتماعي في ظل وجود رقابة اجتماعية هي الأكثر خطراً والأشد تأثيراً من الرقابة الرسمية. هذه الرقابة المجتمعية قد أعطتها وسائل التواصل الاجتماعي social media سلطة لا محدودة وقدرة على نصب المحاكمات العامة، وتوجيه الرأي الشعبي. إن اقتياد الكتاب "المشاكسين" إلى السجون قد أصبح موضة قديمة، إذ حلَّت الرقابة المجتمعية محل السلطة السياسية التقليدية، وأصبحت هذه الرقابة أقوى بأسا على الكاتب من أي شيء آخر". وتضيف بأنها حين فازت روايتها "سيدات القمر" بجائزة "مان بوكر الدولية" في العام 2019، تناقل الناس مقاطع منها على "الواتس آب" وسرعان "ما أثارت هذه المقاطع سخط بعض القراء، لماذا؟ لأن الرواية لا تمثّلهم، لأن مجتمعهم أفضل من المجتمع الذي تقدّمه الرواية، ولأن المسكوت عنه كتداعيات العبودية وتجارة الرقيق على المجتمع العماني يجب ان يظل مسكوتا عنه، ولأن المواضيع الحساسة كالطبقية والاغتصاب يجب ألا تناقش علنا في الروايات". 

قلنا إن وسائل الميدياء حطّمت، في مكان ما جدران الرقابة، لكنها في الوقت نفسه، سمحت في تحويل التعليقات على فعل رقابيّ، أحياناً يكون الكاتب محظوظاً وتكون التعليقات لصالحه ولمسار كتابه، ومرات كثيرة طالح التعليقات يطيح بصالحها. والحق أن "الحرية" التي واكبت انتشار وسائل الميدياء، أفرزت أنماطاً أخرى من الرقابة، فثمة قارئ يفكر بطريقة غوغائية وحمقاء لا يميّز بين الأدب والخيال، يقرأ الرواية فيظنها حقيقة الكاتب أو الكاتبة، يخلط بين بطل الرواية وحياة الروائي، وغالباً ما يتحول ناطقاً باسم الجماعة في مواجهة الفرد، أو ناطقاً باسم الدين والملّة في مواجهة الحرية، أو يحمل سكينا ويطعن كاتباً كما حصل مع نجيب محفوظ وسلمان رشدي...

وعدا الرقابة السلطوية والاجتماعية، نحن أمام الرقابة الذاتية وهي ربما الأكثر فداحة، كتب الروائي الجزائري الحبيب السائح في مدونة له بعد سرده جوانب عن الجوائز الأدبية:
"ما من كاتب (إلا قليلاً) صار اليوم لا يكتب إلا وفي ذهنه جائزة يمارس، لأجلها بوعي، رقابة ذاتية قاتلة؛ رقابة غير مفروضة عليه بالأصل.
ثَم يبرز الفرق الفاصل بين كاتب يكتب للكتابة، قد يسعفه الحظ في نيل جائزة، وبين كاتب يكتب أصلاً لجائزة فتكون خيبته مؤلمة إن هو فشل. ويسأل "هل الجوائز الأدبية تحولت اليوم إلى آلة للرقابة غير العلنية نابت مناب الرقابة السياسية المباشرة؟ يضيف "هذا سؤال تقتضي الإجابة عنه إجراء مسح لموضوعات الروايات وتيماتها الصادرة قبل ظهور الجوائز الأدبية العربية وبعدها"...

أحسب أن الهوس ببابل الجوائز الأدبية ومردودها السخي والحاتمي في زمن القلّة والعوز وأمور أخرى، جعل الكثيرين والكثيرات، من الروائيين والروائيات، لا يكتبون مواقفهم وأحوالهم وذاتهم، بل يؤلفون ويسردون ما يمليه تفكيرهم بالجائزة التي لديها شروطها وعناصرها ومواضيعها وحتى رقابتها... ويستطيع أي ناقد تحديد سمات الروايات التي فازت وسوّقت في السنوات الأخيرة، وما الذي تغير في الرواية العربية منذ انتشار الجوائز.

توهمنا، والوَهْمُ بحسب لسان العرب "من خَطَراتِ القلب، والجمع أَوْهامٌ، وللقلب وَهْمٌ.
وتَوَهَّمَ الشيءَ: تخيَّله وتمثَّلَه، كان في الوجود أَو لم يكن. وقال:
تَوهَّمْتُ الشيءَ وتفَرَّسْتُه وتَوسَّمْتُه وتَبَيَّنْتُه بمعنى واحد".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها